هل العملات المشفرة نقد أم أصل مالي؟
في تطور لافت، ذكرت عدة صحف إلكترونية، أن محكمة في إحدى دول الخليج قد أصدرت حكما ابتدائيا، بمنح الراتب بالعملات المشفرة بموجب عقود العمل، وذلك بعد خلاف بين موظفة وإحدى الشركات، في وقت نصَّ فيه عقد العمل على دفع جزء من الراتب الشهري للموظفة بالعملات النقدية، إضافة إلى عملة مشفرة محددة في العقد، ولأن صاحب العمل لم يدفع الجزء المتعلق بالعملات المشفرة من الراتب لمدة ستة أشهر فقد رفعت الموظفة دعوى قضائية، وانتهى حكم المحكمة بتطبيق العقد ودفع الجزء المستحق بالعملة المنصوص عليها.
هذا في رأيي تحول كبير ليس في نطاقه القانوني والتشريعي، لكن في نطاقة الاقتصادي والاجتماعي، فالعملات المشفرة، لم تزل مجهولة الجوهر، بمعنى حقيقة كونها عملة نقدية، ذلك أن طلب دفع جزء من الأجر بالعملة المشفرة يتطلب صياغة قانونية عميقة، فهل يتم تقييم العمل ككل بالعملة الوطنية، ثم يتم تحديد ذلك الجزء من هذا الأجر الذي سيدفع بالعملة المشفرة، كنسبة مثلا، كأن يقال نصف الأجر يتم دفعه بالعملة المشفرة.
فإذا كان الأجر بالعملة المعتبرة في الدولة كأن يكون ألف دولار مثلا، ثم يقال 600 دولار تدفع بالعملة المشفرة. هنا سيتم تحويل 500 دولار بسعر الصرف المتاح للعملة المشفرة ثم يتم شراء العملة من السوق ثم تحويلها، وهذا يعني أن العملة المشفرة مجرد أصل مالي.
وهنا قد يتضرر العامل، فالعملة قد ترتفع وقد تهبط، خلال ساعات التحويل نفسها، أو بعدها، فلماذا يرضى العامل بذلك؟ كما أن الحصول على العملة قد يتسبب في مشكلات قانونية للشركة إذا لم يكن تداولها مسموحا به، فلماذا توافق الشركة؟ وفي الجانب الآخر وإذا كان العقد ينص على دفع نصف الراتب بالعملة مثلا 500 دولار، ونصفه الآخر بالمشفرة 500 وحدة منها، فإن العقد قد عدّ العملة نقدا، وهنا قد تعرض الشركة نفسها لخسارة فادحة إذا ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، فلماذا توافق الشركة؟
هناك سلوك اقتصادي غير مفهوم على الأقل الآن، والمخاطر كبيرة وغير مقيسة بشكل جيد، فالعملات المشرفة تعمل جاهدة منذ نشأتها على إثبات نفسها كعملة نقدية، أي إنها "نقد" بذاتها، وهذا يعني أنها تقيس الأشياء وتعمل كمخزن للقيمة، وأنه يمكن تقسيمها إلى وحدات أصغر، فبدلا من القول إن هذا يساوي 10 دولارات نقول يساوي 10 بيتكوينات مثلا، لكن الحقيقة أن الأسواق لم تعترف بعد للعملات المشفرة بأنها "نقد"، بل اعترفت بها حتى الآن "كأصل مالي استثماري"، مثلها مثل الأسهم والسندات، فهي أداة استثمار، ويمكن تبادلها على هذا الأساس، فالقيمة ليست فيها لكن في عوائدها.
هنا نعود إلى فلسفة العقد بين الموظفة والشركة، فيبدو لي أن الشركة كانت تنظر إلى العملات المشفرة كأنها أصل مالي تشتريه من السوق بسعر، وكان يجب عليها ضبط العقد من أجل هذا بحيث تذكر قيمة العملة المشرفة بسعر محدد أو في تاريخ محدد (أو ضمن عقد خيار محدد)، وهذا يتطلب أن تكون هناك إدارة لهذا الأصل المالي، ما يعني تحمل الشركة أعباء كبيرة، في مقابل ذلك كان تكييف الموظف للعقد على أن العملات المشفرة "نقد" مثلها مثل العملة الوطنية، ولهذا طالب بها كوحدات.
وهنا لا بد أن يكون العقد واضحا بحيث ينص على أن الراتب ألف وحدة مشفرة، وفي هذا الشكل أيضا تحدث مشكلة الحصول على هذه الوحدات وآليه تحويلها، وقد ترتفع هذه العملات - كما أشرت أعلاه – بجنون، ما يعني تحول ثروة ضخمة لهذا الموظف على عمل لا يستحق كل ذلك.
من اللافت أيضا وجود حكم سابق في قضية مماثلة حيث تم رفض طلب الموظف لأنه لم يتم تحديد قيمة العملة المشفرة، بل يريدها بعددها كنقد، لكن المحكمة لم تقبل كونها نقدا، بل مجرد أصل مالي له قيمة، فالمحكمة لم تنظر في العقد بل في تكييف العملات المشفرة، ذلك أن المحكمة عدّت العملات المشفرة أصلا ماليا له سعر سوق مثل الأسهم، وليست وحدات بذاتها، فإذا طلب أسهما، فلا بد من تحديد قيمتها من العملة الوطنية، وهذا فرق كبير بين الحالتين والحكمين.
لذلك فإن حكم المحكمة الذي أقر دفع الأجر بالعملة المشفرة دون تحديد قيمتها قد عدّها الآن نقدا، وليست مجرد أصل مالي، حيث نظر إلى العقد وليس إلى التكييف القانوني للعملة، بينما الحكم الثاني كيّف وضعها أولا ثم صدر الحكم، والله أعلم.