تراجع الدولار "الملك" خبر سار للجميع تقريباً
اقتصادات أوروبا وآسيا والأسواق الناشئة ستستفيد من ضعف العملة الأمريكية و"خفض الفيدرالي" الفائدة المتوقع في سبتمبر
هل ولى زمن الدولار "الملك" وانحسر مده بشكل حاسم ؟
يشير انخفاض العملة الأمريكية بنحو 5 % مقابل عملات رئيسة في الشهرين الماضيين، الذي أودى بمؤشر الدولار إلى أدنى مستوى في 13 شهراً، إلى أن مسيرة ارتفاعه بعد جائحة كورونا قد تعثرت كثيراً.
يتزامن ذلك مع تغيير في نهج مجلس الاحتياطي الفيدرالي أوضحه رئيسه جيروم باول في ندوة جاكسون هول الأسبوع الماضي، فقد أبقى البنك المركزي الأمريكي أسعار الفائدة مرتفعة لفترة طويلة بما يكفي. والسؤال في اجتماعه المقبل في 18 سبتمبر هو مدى حجم الخفض الأول. فوارق أسعار الفائدة، والتكلفة الضمنية للتحوط من التعرض للدولار، ليس الأساس المنطقي الوحيد لتحديد الأداء النسبي للعملة، وإنما لهما تأثير مهيمن.
يتوقع ستيفن جين، مدير صندوق التحوط للعملات المشهور بنظرية "ابتسامة الدولار"، أن تبيع شركات صينية أصولاً في الولايات المتحدة بنحو تريليون دولار وتعيدها إلى الوطن فيما يشبه "الانهيار الجليدي"، مما يرفع اليوان 10 % مقابل الدولار. ومن المؤكد أن تدافعاً من هذا القبيل من شأنه أن يحول الابتسامة إلى تجهُّم وعبوس، لأنه يعني أن التجارة العالمية توقفت فعلياً. غير أن القوة الاقتصادية المستمرة للولايات المتحدة مقارنة بصورة الاستثمار الصيني المتعثرة تشير إلى أن الأمر غير منطقي تقريباً. لكن إذا أقدم الاحتياطي الفيدرالي على سلسلة مستمرة من تخفيضات أسعار الفائدة، فمن شأن ذلك أن يزيد من تقليص علاوة الملاذ الآمن التي تمتع بها الدولار على مدى السنوات الثلاث الماضية.
ماذا يعني ضعف الدولار ؟
ومع ذلك، فإن هذه ليست قصة الدولار "الملك" الذي يُطاح به من عرشه. فلن تتعرض مكانته كعملة احتياط رئيسة للتهديد عبر تراجع تدريجي في قيمته. فلا تزال الولايات المتحدة على الأرجح المكان الأكثر أماناً للاستثمار -مع عوائد مناسبة وسوق أسهم نشطة- حتى وإن لم تعد آمنة مثلما كانت. بيد أن التقلبات الشديدة في أوائل أغسطس أحدثت هزة شديدة في عالم المال والأعمال. ووجدت أسواق العملات نفسها فجأة أمام وضع غير مواتٍ للغاية.
ماذا يعني ضعف الدولار بالنسبة إلى بقية العالم، الخاضع لسيطرته منذ فترة طويلة؟ قد تتطلع الصناديق التي تتخذ مقرها في الولايات المتحدة إلى الخارج لتنويع استثماراتها مع بدء ظهور الفرص في الخارج من جديد. وسوف يوسع عديد من المستثمرين العالميين أيضاً من آفاقهم.
لكن الفوائد الاقتصادية ستنتشر على نطاق واسع. وعادة ما يميل أداء الاقتصادات المصدرة للسلع الأساسية إلى أن يكون جيداً عندما يضعُف الدولار، حيث ترتبط أسعار هذه السلع بشكل عام ارتباطاً عكسياً بقيمة الدولار. لكن بعد سنوات قليلة صعبة للغاية، فمن المرجح أن يكون هذا مفيداً على نطاق واسع لمعظم الأسواق الناشئة، وخاصة تلك التي تعاني ارتفاع تكاليف الاستيراد من السلع الأساسية المسعرة بالدولار. وهذا يشمل اقتصادي الصين والهند الفقيرين بالموارد. وهناك فائدة إضافية تتمثل في انخفاض أسعار النفط بالتزامن مع ضعف الدولار.
بطبيعة الحال، هناك دائماً استثناءات للدول التي تعاني عجزا تجاريا كبيرا وعجزا في حساب المعاملات الجارية، أو لأسباب أخرى خاصة، التي سوف تعاني قوة غير مرغوب فيها مقابل الدولار.
أبرز هذه الاستثناءات هي منطقة اليورو، وبشكل أكثر تحديداً، ألمانيا قاطرتها للتصدير. يخشى مركز الأبحاث الألماني "إيفو" (IFO) أن "تقع البلاد على نحو متزايد في أزمة". فقد انكمش الناتج المحلي الإجمالي الألماني في الربع الثاني للمرة الثالثة في الأرباع الخمسة الماضية، متأثراً بضربة مزدوجة من ضعف ثقة المستهلك والإنفاق الرأسمالي. لن يؤدي المزيد من قوة اليورو إلا إلى زيادة المعاناة والمصاعب.
إحدى النتائج الإيجابية المترتبة على ارتفاع قيمة اليورو هي انخفاض توقعات التضخم، الأمر الذي يمنح البنك المركزي الأوروبي مزيدا من الثقة في خفض أسعار الفائدة على الودائع. وفي ظل فجوة أسعار الفائدة التي تبلغ 175 نقطة أساس مع الولايات المتحدة، فمن غير المرجح أن يخفض البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة بوتيرة كبيرة، لكنه سوف يتتبع عن كثب مسار قرارات أسعار الفائدة الأمريكية للتخفيف من تأثير العملة على قطاع التصدير. وأسرع طريقة لتنشيط منطقة اليورو، ودعم القيمة الأطول أجلاً للعملة المشتركة، هي خفض أسعار الفائدة. وهناك أيضاً الفائدة الإضافية المتمثلة في خفض تكاليف خدمة الديون الضخمة. وقد تكون قوة العملة ثمناً ضرورياً.
فخ الدولار
عادة ما تكون اليابان في القارب نفسه مع أوروبا؛ إذ تركز على الحفاظ على سعر الين عند مستويات معقولة لجعل صادراتها قادرة على المنافسة. لكن سعر الين أصبح ببساطة متراجعاً، وبالتالي فهناك مجال كبير لارتفاع قيمته. كان نحو ربع الضعف الإجمالي للدولار مدفوعاً بتعافي الين، ويُحسب لليابان أنها تدخلت بنجاح في عملتها، وإن كانت محاولاتها السابقة في وقف تحركات السوق غير موفقة إلى حد بعيد. لكن بنك اليابان كان يمارس لعبة القط والفأر بمهارة في انتظار إشارة من الاحتياطي الفيدرالي إلى تحول في السياسة النقدية. وقد تكون هناك حاجة إلى عدد أقل من مرات رفع أسعار الفائدة التي قد يلجأ إليها بنك اليابان إذا قرر الاحتياطي الفيدرالي خفض أسعار الفائدة. فالاقتصادات الناشئة في آسيا تتجه إلى خفض أسعار الفائدة بقوة.
إضافة إلى الوقوع في فخ الدولار، فإن أغلب الدول الآسيوية المصدرة تتنافس مع بعضها بعضاً حتى لا تصبح عملاتها فجأة باهظة الثمن نسبياً. وبالنسبة إلى اليوان الصيني والوون الكوري، فإن إزالة الضغوط الناجمة عن محاربة الدولار القوي ستسهل خفض أسعار الفائدة عند الحاجة. من شأن تحول "الاحتياطي الفيدرالي" إلى بيئة أسعار فائدة أكثر تيسيراً أن يوجد حالة من الهدوء عالمياً، إذ يبدو أنه عازم على خفض تكلفة ممارسة الأعمال التجارية على نطاق واسع. وسيكون الطريق وعراً، لكن حتى الدول التي يقوم اقتصادها على الصادرات فستستفيد في الأمد البعيد.
خاص بـ "بلومبرغ"