حوار أوروبي اقتصادي مفتوح جديد
من الواضح أن حال أوروبا باتت معطوبة على نحو أو آخر. كان أبرز ما جاء في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في السوربون في أبريل الماضي تحذيره من أن أوروبا فانية، "إنها من الممكن أن تموت". ويشعر كثيرون بحاجة ملحة إلى فكر جديد، وقيادة جديدة، وأفكار جديدة، لكن من الصعب أن نقول أين قد يوجد كل هذا. إن توليد أفكار جديدة وصياغة مبادئ جديدة يتطلب حوارا مفتوحا. لكن أوروبا تظل مهووسة بسياسة الإجماع، وبالتالي فهي عالقة في مذهب متشدد محبط تروج له الدوائر الرسمية والرأي النخبوي في برلين وباريس.
كانت العلاقة بين فرنسا وألمانيا المحور المركزي للتاريخ الأوروبي لمدة مائتي عام. وبعد الانقطاع الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية الذي ترك النخب القديمة في البلدين في حالة من الإذلال التام، أصبح الثنائي الفرنسي الألماني الأساس الذي قام عليه المشروع الأوروبي. لكن الآن أصبح كل من البلدين مشلولا، وصارت الممارسة التي شكلت ضرورة أساسية لإعادة صياغة أوروبا بعد الحرب متخبطة. لقد اختار الناخبون الفرنسيون للتو برلمانا معلقا يضم اليمين المتطرف واليسار الثوري ووسطا معزولا عديم التأثير، في حين تظل حكومة الائتلاف غير الشعبية في ألمانيا عالقة في نزاعات مالية لا تنتهي.
لا عجب أن الجميع يريدون تغييرا في القيادة. في الماضي، كانت أوروبا تتألف من أربع ركائز أساسية: فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، وكانت اقتصاداتها ذات يوم متماثلة في الحجم وأعداد سكانها متشابهة. لكن بعد توحيد ألمانيا في 1990، تغيرت النسب، في حين فقدت إيطاليا مصداقيتها بسبب عدم الاستقرار السياسي الدائم، وبريطانيا بسبب الحرب الأهلية التي خاضها حزب المحافظين وأدت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لكن من الغريب أن بريطانيا وإيطاليا تبدوان الآن في وضع أفضل من فريق برلين وباريس القديم. فإيطاليا لديها حكومة رصينة، ومسؤولة ماليا، وذكية جيوسياسيا، ومؤيدة لأوروبا تحت قيادة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني. ورغم أنها نشأت من الحركة الاجتماعية الإيطالية الفاشية الجديدة، إلا أنها تخلت عن معظم أيديولوجيتها. على نحو مماثل، تحظى بريطانيا الآن بحكومة عمالية رصينة، ومسؤولة ماليا، وذكية جيوسياسيا، بقيادة رئيس الوزراء كير ستارمر، الذي حل محل جيريمي كوربين ثم طرده هو والدافع المعادي لأوروبا والمعادي للسامية الذي يمثله. ويستفيد كلا البلدين من حقيقة مفادها أن الحكومات السابقة ارتكبت أخطاء فادحة.
بالنظر إلى المستقبل، يمكننا أن نتخيل إعادة توجيه الشؤون الأوروبية حول ثالوث جديد يضم بريطانيا وإيطاليا وبولندا. مثلها كمثل فرنسا وألمانيا، تشترك هذه البلدان أيضا في كثير من تاريخها. لكنها تشترك أيضا في تقدير الحقائق العالمية الحالية، فضلا عن ثقافة الحوار.
كما تعيش بريطانيا وإيطاليا وبولندا بثبات في الحاضر: فهي لا تتجادل إلى الأبد حول نقل السلطات إلى المؤسسات الأوروبية أو التكامل النقدي. وهي تحترم تقاليد الحوار. في إنجلترا في القرن التاسع عشر، سخر الكاتبان المسرحيان جيلبرت وسوليفان من تصور مفاده أن "كل صبي وكل فتاة/ يولد أو تولد في العالم على قيد الحياة/ إما أن يكون أو تكون ليبراليا أو ليبرالية قليلا/ أو محافظ أو محافظة قليلا".
تتلخص سمة التوجه الحكومي الناجح الأساسي في مفهوم حق وواجب كل المواطنين التعبير عن أنفسهم بحرية في التجمعات العامة. ويقدم ذات المفهوم في بعض الأحيان على أنه المسؤولية عن قول الحقيقة للسلطة. بعد مرور مئات السنين، أنتج هذا المفهوم ازدهار عصر النهضة، مع معتقده أن الأفكار والحجج يجب أن تكون قابلة للاختبار وكذلك قابلة للجدال. وبوصفه المبدأ الوحيد الذي يتعين على الأنظمة الحكومية، فإن مفهوم الصراحة وحرية التعبير هو المفتاح لإنقاذ الإنسانية وربطها بالاقتصاد معا.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.