القوى المحرك الرئيس لموازين التجارة في الصين وأمريكا

أدى اتساع الفائض التجاري للصين ونمو العجز التجاري للولايات المتحدة منذ الجائحة إلى تجدد المخاوف بشأن الاختلالات العالمية، كما أثارا جدلا حادا حول أسبابهما وتداعياتهما. فهناك مخاوف متزايدة من أن الفوائض الخارجية للصين هي نتاج مجموعة من تدابير السياسة الصناعية المصممة لتشجيع الصادرات ودعم النمو الاقتصادي في ظل ضعف الطلب المحلي. وبعضهم يشعر بالقلق إزاء الطاقة الفائضة التي قد تنشأ عنها "الصدمة الصينية 2" – وهي طفرة في التصدير تؤدي إلى تسريح العمالة والإضرار بالنشاط الصناعي في بلدان أخرى.

غير أن هذه رؤية منقوصة، على أفضل تقدير، حول التجارة والسياسة الصناعية، وينبغي الاستعاضة عنها برؤية كلية. فالموازين الخارجية تتحدد في نهاية المطاف بناء على أساسيات الاقتصاد الكلي، ولا تربطها بالتجارة والسياسة الصناعية سوى روابط ضعيفة.

وللوقوف على نمط الاختلالات الخارجية العالمية، علينا أن نفهم الدوافع الاقتصادية الكلية وراء مستوى الادخار المرغوب مقابل الاستثمار المرغوب، ليس في الصين فقط، بل في بقية العالم أيضا، وخصوصا الولايات المتحدة. ففي حين تسهم البلدان الأخرى في الاختلالات العالمية، تشكل الولايات المتحدة والصين مجتمعتين نحو ثلث رصيد الحساب الجاري العالمي.

سجلت الصين زيادة هائلة في الفائض التجاري مع بداية الجائحة. ففي البداية، شهدت صادرات المعدات الطبية طفرة كبيرة، وازدادت مشتريات المستهلكين حول العالم من السلع مقارنة بالخدمات بسبب التباعد الاجتماعي. ثم تراجع الطلب المحلي في الصين إلى حد كبير بدءا من أواخر 2021 بسبب تصحيحات واسعة النطاق في أسواق العقارات، ثم عودة إجراءات الإغلاق العام في 2022، التي نتجت عنها تداعيات سلبية على ثقة المستهلكين.

وأدى ذلك إلى تداعيات هائلة على الاقتصاد الحقيقي الصيني، حيث ارتفعت معدلات الادخار بين الأسر وتراجع الاستثمار. وبالتزامن مع ضعف الطلب المحلي في الصين، ارتفع الطلب العالمي بفعل مستويات الادخار السالب الهائلة - ولا سيما في الولايات المتحدة حيث سجل عجز المالية العامة نموا هائلا مقارنة بما قبل الجائحة وانخفضت مدخرات الأسر إلى النصف.

ونتيجة لذلك، يتراوح الميزان التجاري للصين في الوقت الحالي ما بين 2 % و4 % من إجمالي الناتج المحلي، حسب منهجية القياس المستخدمة -راجع مشاروات المادة الرابعة مع الصين للاطلاع على تفاصيل حول الاختلافات في المنهجية-. ويعكس هذا التكوين ضعف الواردات وارتفاعا كبيرا في نصيب الصين من الصادرات العالمية.

وقد تراجع الفائض التجاري كنسبة من الناتج الاقتصادي مقارنة بفترة "الصدمة الصينية" خلال العقد الأول من القرن الـ21 (حيث بلغ في ذروته نحو 10 % من إجمالي الناتج المحلي الصيني). غير أن الصين تمثل حاليا نسبة أكبر كثيرا من الاقتصاد العالمي إلى الحد الذي حافظ على استقرارها بمرور الوقت كنسبة من الناتج العالمي بالرغم من أن فائضها التجاري أصغر حجما مقارنة باقتصادها. بالتالي، فإن التطورات التجارية في الصين تظل انعكاساتها ضخمة على بقية العالم.

وتتنبأ هذه الصورة "الكلية" بنتائج مقاربة لما تشير إليه البيانات. فنتيجة لضعف الطلب المحلي في المقام الأول، ارتفع فائض الحساب الجاري الصيني بنحو 1,5 نقطة مئوية، بما يقارب الارتفاع المشاهد في البيانات مقارنة بمستواه فيما قبل الجائحة. وينتج عن الارتفاع المستمر في المدخرات المحلية في الصين تراجع كبير في سعر الصرف الفعلي الحقيقي، تماشيا مع البيانات منذ 2021. وتسهم هذه التصحيحات السعرية النسبية في دعم نمو الصادرات وتراجع الطلب على الواردات.

والوضع مماثل في الولايات المتحدة. فنظرا لقوة الطلب المحلي في المقام الأول، يتراجع رصيد الحساب الجاري الأمريكي بنحو نقطة مئوية في النموذج - أي بما يقارب الانخفاض المشاهد في البيانات مقارنة بمستواه فيما قبل الجائحة.

وتجدر الإشارة إلى أن التراجع المستمر في المدخرات المحلية الأمريكية يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية الأمريكية، ما يوازن إلى حد كبير التأثير السلبي لزيادة المدخرات الصينية على أسعار الفائدة العالمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي