ما أضيق العيش مع أجهزة الذكاء الاصطناعي!
عنوان المقال قد يعيد ذاكرة بعض القراء إلى الطغرائي وبيته الشعري الشهير: "أعلل النفس بالآمال أرقبها / ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل".
وإن كان الطغرائي قد جعل الأمل الوسيلة الوحيدة للصبر على ضيق العيش، فإن التكنولوجيا الخوارزمية، وما تنتجه لنا من أدوات الذكاء الاصطناعي في طريقها لضيق عيشنا، دون بصيص ضوء أخضر في نهاية نفقها كما يبدو.
غياب بصيص الأمل مرده حتى الآن، الاحتكار شبه المطبق على التكنولوجيا الحديثة وخوارزمياتها، التي تجتر وبسرعة مذهلة أجهزة ذكية بصغر حجم رأس الإبرة، لكنها ذات قدرة فائقة لتحسين العيش أو تضييقه.
يبدو أن الذي يملك ناصية هذه التكنولوجيا المجنونة، سيعمل المستحيل لتحسين عيشه وتعكير العيش لكل من لا يساير نهجه أو يقع تحت هيمنته.
أقول: تكنولوجيا مجنونة، لأنها تسمح لمصنعيها بالتحكم في أي جهاز يستخدمها، حتى وإن اشتريته بمالك ودفعت ثمنه نقدا. الفرق جلي بين منتج تكنولوجي تقليدي ومنتج خوارزمي.
المنتج الخوارزمي ليس مثل قطعة أثاث أو أداة منزلية، إن اشتريتها أصبحت ملكا لك حصرا. أي منتج تديره شريحة خوارزمية ليس ملكا لنا أبدا، رغم دفع ثمنه نقدا. صانع الشريحة الذكية التي تدير أدوات وسلع التكنولوجيا الحديثة له حصة الأسد فيها، وعلى الخصوص في الإدارة والتوجيه والتحكم في الخوارزمية التي بنيت عليها.
لم يكن لشركات قليلة لدول لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، مثل هذه المقدرة شديدة الفعالية إلى درجة مشاركتها في تملك السلعة التي تنتجها حتى بعد بيعها. ليس هذا فقط، بل بواسطة الخوارزمية، قد تتحكم في مصير المالك الجديد رغما عنه.
نشهد أحداثا مهولة تظهر كيف في الإمكان تطويع التكنولوجيا الحديثة، وتحويل جهاز عادي إلى آلة قتل في المعارك الحديثة بنجاح منقطع النظير غير مسبوق في عالم الحروب.
هذا النجاح سيدفع الأمم والدول المالكة والمتحكمة في هذه التكنولوجيا إلى زيادة احتكارها لها، وفرض قيود قاسية على مشاركة الآخرين في أسرارها بعد أن أثبتت أنها أداة بتارة كسلاح، وذات نفع لا مثيل له عند استخدامها لأغراض تحسين العيش.
التكنولوجيا الذكية صارت تصنع المعجزات في شتى الميادين، ورغم تأثيرها البالغ في تحسين نمط حياة البشر أو التضييق عليهم يبدو أن احتكار صناعتها سيدوم طويلا. من طبيعة البشر التشبث بالأمر أو الشيء الفريد الذي لديهم، وعدم الرغبة بصورة عامة في أن يكون للآخرين مثله أو قريب أو شبيه له.
أخذت بعض الدول في العالم تستشعر خطورة هذه التكنولوجيا، وأن عدم المقدرة على إنتاجها أو في الأقل تحكما في الأدوات الذكية، التي تستوردها أو تقوم بشرائها سيضعها في خانة الدول المتخلفة حتى وإن كانت خزائنها تطفو بالذهب.
هناك حاليا توجه صوب مسار جديد للتنمية لدى عديد من الدول، تركيزها على بناء مقدرات وطنية للتعلم والذكاء التكنولوجي. صارت مهمات اكتساب ناصية الذكاء التكنولوجي والخوارزمي من المهمات الوطنية لها الأولوية في الخطط التنموية.
لن يكون بمقدور إي انطلاقة في هذا المضمار، مواجهة ما وصلت إليه الشركات والدول التي تتحكم في الصناعة الذكية حاليا، ولكن لم يعد الأمر مقتصرا على المنافسة بل يجب العمل جديا للتمكن من درء ضيق العيش الذي قد تسببه هذه التكنولوجيا.
وأول لبنة في خطة تنموية غايتها بناء قدرات وطنية في حقل الصناعات الذكية، لن تفلح إن لم يتم إيلاء التعليم العالي أهمية قصوى، وإطلاق معاهد وجامعات أو كليات أو أقسام علمية وهندسية ورياضية تعنى بالعمل الخوارزمي.
ومن ثم إعادة النظر في الصناعة، ومنح الصناعات الخوارزمية أهمية قصوى، والدخول في معترك الإنتاج الوطني للأدوات والأجهزة الخوارزمية، وعندها قد يكون في إمكاننا إنشاد العجز من بيت الطغرائي وليسمح لنا هكذا: "ما أضيق العيش لولا فسحة المعاهد".