الاستدامة في تمويل التنمية المستدامة
تسعى قمة المستقبل التي عقدتها الأمم المتحدة في نيويورك والتي اختتمت أعمالها للتو، والقمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية المرتقبة في العام المقبل، إلى "رسم مسار نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة والاستجابة للتحديات والفرص الناشئة". لكن السؤال حول كيفية تمويل الاستثمارات اللازمة -خاصة في وقت حيث أثقلت الديون كاهل بلدان عديدة- يُـلاحِق المناقشات العالمية.
اليوم، أصبح الاقتصاد العالمي أكثر تفتتا، والتوترات الجيوسياسية أعلى، والتعددية متعثرة. علاوة على ذلك، ارتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر: فخلال الفترة 2020-2023، انزلق ما يقدر بنحو 165 مليون شخص، معظمهم في بلدان نامية، إلى ما دون خط الفقر المحدد من قِـبَـل البنك الدولي (3.65 دولار في اليوم عند تعادل القوة الشرائية).
من ناحية أخرى، أصبحت إدارة أعباء ديون عدد كبير من البلدان أقل سلاسة، بعد أن اضطرت الحكومات إلى زيادة الإنفاق العام استجابة للجائحة وأزمة غلاء المعيشة التي ترتبت عليها. اليوم سنجد أن 27 دولة نامية فقط -18% من الإجمالي- لا تـثـقِـل كاهلها ديون مفرطة. وتتصارع بقية الدول مع تراكم الديون، الأمر الذي يقوض النمو الاقتصادي والتنمية، ويزيد من خطر العجز عن السداد في نهاية المطاف. تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن عتبة أعباء الديون المستحقة على الدول المنخفضة الدخل تراوح بين 35% و70% من الناتج المحلي الإجمالي، وبعد هذه العتبة قد يصبح من المتعذر إدارة الدين.
عندما تكون تكاليف خدمة الديون مرتفعة، تنتهي الحال بالدول عادة إلى تقديم تضحيات كبيرة لكي يتسنى لها البقاء قادرة على الوفاء بالتزاماتها. على سبيل المثال، قد تستغل الدول احتياطيات النقد الأجنبي، ما يضعف قدرتها على الاستجابة للأزمات في المستقبل، أو إعادة تخصيص الموارد من مجالات حَـرِجة -مثل التعليم والصحة والحماية الاجتماعية- لمواكبة مدفوعات الدين. في البلدان منخفضة الدخل، أصبحت مدفوعات الفائدة الآن أكبر بنحو 2.3 مرة من الإنفاق على المساعدات الاجتماعية، وأكبر بنحو 1.4 مرة من الإنفاق الصحي المحلي، في المتوسط. وهي تعادل 60% من الإنفاق على التعليم.
لكن تخفيف الديون وحده لا يكفي. فإذا كان للدول النامية أن تحقق أهداف التنمية المستدامة، فستحتاج إلى مصادر جديدة للتمويل. حتى الآن، تولت بنوك التنمية المتعددة الأطراف زمام المبادرة على هذه الجبهة. وكما يظهر تقرير حديث صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، خلال الفترة 2012-2020، ازدادت التدفقات الخارجة من مجموعة البنك الدولي 72%، وسجلت التدفقات الخارجة من بنوك التنمية المتعددة الأطراف الأخرى ارتفاعا شديدا بلغ نحو 155%. وخلال الفترة 2021-2022، ارتفع إجمالي التدفقات الخارجة من بنوك التنمية المتعددة الأطراف 22% أخرى.
ومن المنتظر أن يستمر هذا الاتجاه. في وقت سابق من هذا العام، قدرت 10 بنوك تنمية متعددة الأطراف أنها قد تتمكن مجتمعة من رفع سقف الإقراض بمقدار 300-400 مليار دولار إضافية على مدى العقد المقبل. لكن هذا يعني زيادة قدرها 40 مليار دولار فقط سنويا -أقل كثيرا من 260 مليار دولار سنويا التي تشير تقديرات مجموعة الخبراء المستقلين التابعة لمجموعة العشرين إلى أنها ستكون لازمة لتلبية أهداف التنمية المستدامة.
لمعالجة ضرورة التنمية المستدامة، يتعين على بنوك التنمية المتعددة الأطراف إقناع دولها الأعضاء بزيادة مساهماتها بمبالغ تتناسب مع حجم التحديات المقبلة. كما يتعين على منظمات أخرى متعددة الأطراف، مثل الأمم المتحدة، فضلا عن الجهات المانحة غير الحكومية والقطاع الخاص، تكثيف دعمها.
ينبغي للجهود المتعددة الأطراف أن تستهدف معالجة الديون القائمة وتوسيع نطاق القدرة على الوصول إلى التمويل الـمُـيَـسَّـر في المستقبل، باستخدام مجموعة متنوعة من الأدوات، بما في ذلك القروض الميسرة، والسندات الخضراء والزرقاء، والـمِـنَـح. كما يجب تنسيق التدابير السياسية على المستوى الدولي. وإلا فإننا لن نحظى بفرصة تُـذكَـر لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول الموعد النهائي في 2030، وستكون العواقب مدمرة على الناس والكوكب.
خاص بـ"الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.