حوكمة بلا أرباح أو أرباح بلا حوكمة؟

هو سؤال ماكر، مررت عليه بالصدفة في منصة إكس، هل تريد حوكمة بدون تحقيق أرباح، أم تريد أرباحا دون مطالبة بالحوكمة؟ لا شك أن الإجابة الفطرية عن سؤال مثل هذا هي نريد الأرباح ولو كانت بلا حوكمة؟ ذلك أننا لم نبدأ الأعمال ولم نستثمر الأموال إلا من أجل الأرباح، فأي شيء يعوق هذا الهدف فلا داعي له.
لكن السؤال كما قلت لكم مخادع جدا، مثل سؤال هل تريد إنجازا بدون شهادات أم تريد شهادات بدون إنجاز؟ فالمكر في السؤال هو الإيحاء بأن الحوكمة تتسبب في عدم تحقيق الأرباح، وكأن المدير التنفيذي الذي تفرض عليه الحوكمة مدير مقيد بقيود نسميها الحوكمة تتسبب في تدني الأداء. هذا ليس صحيحا، والسؤال الصحيح هو هل تريد رقم أرباح لا تثق به لعدم وجود الحوكمة أو تريد رقم أرباح (أو حتى خسائر) يمكن الثقة به؟
الحوكمة ليس لها علاقة مباشرة برقم الأرباح ولا بالأداء، لكن لها علاقة مباشرة بحماية القرار الذي يتخذه المستثمر، فلا يتم تضليله بمعلومات خاطئة أو محرفة.
رقم الأرباح هو مقياس أداء الجهاز التنفيذي في استخدام الأموال، والجهاز التنفيذي يعد التقرير عن رقم الأرباح، فمن الطبيعي أن يتلاعب به، خاصة أن صاحب المال (دائنا كان أو المستثمر) لا يعلم على وجه الحقيقة ما الرقم الصحيح، فليس له القدرة على مراجعة كافة عمليات الإدارة اليومية وتقييم قراراتها اللحظية في استخدام الأموال، لذلك قد تأتي الإدارة وتدعي بتحقيق الإنجازات والأرباح، وأن ذلك بفضل منح الإدارة التنفيذية الحرية المطلقة بلا رقيب ولا حسيب، وتدعي الإدارة التنفيذية أن الحوكمة تعوق أعمالها.
فهل نصدقها؟ لقد قيل نعم نصدقها، ثم ظهرت التجارب العالمية حافلة بتلك اللحظات المؤلمة بعدما تم تصديق الإدارة التنفيذية، وتصديق تقاريرها عن رقم الأرباح، والأمثلة لا تعد و لا تحصى، خسائر المساهمين وأصحاب الودائع في صناديق الأموال والتأمينات في الولايات المتحدة، وخسائر شركات يابانية كانت تدعي نزاهة لا حدود لها، وشركات محلية كانت مضرب الأمثال، الجميع كان لديهم إدارة تنفيذية ذات شخصية كارزمية مذهلة، وفي النهاية تم اكتشاف التلاعب في القوائم المالية وفيها رقم الأرباح.
لقد لاحظ عديد من الباحثين أن المدير التنفيذي ذا الشخصية (الكارزمية – النرجسية) يتلاعب برقم الأرباح، لكن على نحو غريب، فهو يعمل جاهدا على إبراز الأخبار الجيدة وإخفاء الأخبار السيئة، لكن الأخبار السيئة تبقى حبيسة الشركة حتى تضيق بها فتظهر دفعة واحدة، ما يتسبب في موجة هائلة من الخسائر، لقد كانت هذه الظاهرة شديدة الوضوح في شركات مثل أوليمبوس اليابانية، وانرون الأمريكية وغيرها.
لقد ذهبت الأبحاث العلمية بعيدا في اكتشاف العلاقة بين الحوكمة ورقم الأرباح، ومع ذلك لا يمكن لأحد القول إن الحوكمة تحسن الأداء، لا يوجد دليل لا شك فيه بأن الحوكمة تزيد من الأرباح، لكن الجميع متفق تماما (وتقريبا) على أن الحوكمة تمنح الثقة بالتقارير المالية التي تعدها الإدارة، وتحسن من فرص القرار الجيد، لكن مع ذلك فإن القرار بالاستثمار مع إدارة ذات حوكمة جيدة وإدارة ذات حوكمة سيئة هو قرار شخصي في نهاية المطاف، لا يمكن حماية من لا يريد حماية نفسه، لا يمكنك منع أحدهم من القفز فوق السياج للفوز بسراب صيد في واد مليء بالذئاب. قد تصيد رقم الأرباح الذي ترغبه لكن قد يتم اصطيادك في دوامة خسائر لا نهائية.
لذلك أنصح دوما بالحوكمة العاقلة المرنة التي تتلبس الشركة وليست التي تُلبس الشركة ثوبا غير ثوبها، ذلك أن الحوكمة ليست مقاسا واحدا، فهي مقاسات ولكل شركة وهيئة ما يناسبها من المقاسات، ليس لهيئات الحوكمة شكل واحد ولا هدف واحد، وليس بالضرورة أن تكون لها لجان مراجعة ولجان ترشيح، بل بعضها لا يحتاج إلى مجلس إدارة ابتداء، تلبيس الجميع نفس المقاس يعوق الحركة، ولك أن تتأمل في ذلك، وهذا الخطأ في تلبيس الجميع نفس المقاس هو الذي قاد إلى السؤال الماكر أعلاه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي