عدسة أهل الاقتصاد في الانتخابات الأمريكية
من خلال عدسة أهل الاقتصاد تتضح القضية. أولا، يتمثل جزء أساسي من الحرية في حرية الفعل والتصرف ــ التزام المرء بتحقيق كامل إمكاناته. إن من يعيشون على الكفاف أو على حافة المجاعة لا يملكون حرية حقيقية؛ إنهم يفعلون ما يتعين عليهم أن يفعلوا من أجل البقاء.
ثانيا، في أي مجتمع يتألف من أفراد تجمعهم الاتكالية المتبادلة والتضامن، قد يترتب على حصول بعضهم على الحرية خسارة آخرين لحريتهم. على حد تعبير الفيلسوف أشعيا برلين من جامعة أكسفورد، "حرية الذئاب تعني في كثير من الأحيان الموت للخراف". كان التحرير المالي في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين -حرية المصرفيين- ليعني موت الاقتصاد لو لم تتدخل الحكومة؛ ولكن بما أن هذا التدخل تَـطَـلَّـب مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب، فقد ظلت الأزمة تعمل على تقليص حرية دافعي الضرائب وكثيرين من العمال ومُـلّاك المساكن.
ثالثا، قد يؤدي قليل من الإكراه إلى توسيع نطاق الحرية للجميع بشكل ملموس. فعندما نعمل معا، يمكننا أن نفعل أشياء لا نستطيع أن نفعلها بمفردنا؛ ولكن لتجنب مشكلة "رُكَّـاب المجان"، ربما تنشأ الحاجة إلى بعض الإكراه.
رابعا، في حين عمل الاقتصاد النيوليبرالي على توسيع حرية الشركات في استغلال الآخرين، فإنه لم يؤد إلى الرخاء إجمالا، ناهيك عن الرخاء المشترك. وقد تنبأت النظرية الاقتصادية الواقعية بهذا حتى قبل أن تصبح النيوليبرالية رائجة في عهد رونالد ريجان ومارجريت تاتشر. النيوليبرالية فضلا عن ذلك ليست مستدامة، لأنها تشجع سمات فردية وسلوك السوق الذي يقوض عمل الاقتصاد.
ويعتمد عمل الاقتصادات ونجاحها على الثقة. وقد أَكَّـد الفائزون بجائزة نوبل في علوم الاقتصاد لهذا العام ــ دارون عاصم أوغلو، وسيمون جونسون، وجيمس أ. روبنسون ــ على أهمية المؤسسات؛ ولكن حتى المؤسسات التي تبدو نافعة لا تعمل بنجاح عندما يبدأ أفراد أنانيون، من أمثال دونالد ترمب، في انتهاك القواعد بشكل صارخ وإظهار قدر مُـفـرِط من التضليل والكذب.
في قلب أجندة هاريس يكمن الالتزام بمساعدة الأميركيين العاديين، بدلا من العودة إلى اقتصاد التقاطر إلى الأسفل سيئ السمعة الذي تبناه ترمب خلال فترة رئاسته. ومن شأن التخفيضات الضريبية التي اقترحها لصالح أصحاب المليارات والشركات الكبرى أن تضيف ما يقدر بنحو 7.5 تريليون دولار إلى ديون الولايات المتحدة على مدار السنوات القليلة المقبلة.
في حين يبدو أن ارتفاع التضخم بعد الجائحة في مختلف أنحاء العالم بات تحت السيطرة، يظل الأمريكيون قلقين بحق بشأن أسعار الأدوية والإسكان. وقد اقترحت هاريس تدابير لمنع التلاعب بالأسعار، لكن هذه التدابير أُسيئ تفسيرها على نطاق واسع (وعن عمد). إنها لا تدعو إلى تحديد الأسعار من جانب الحكومة الفيدرالية، والحق أن عددا كبيرا من الولايات تطبق بالفعل قوانين لمكافحة التلاعب بالأسعار لمنع الشركات من استغلال مواقف استثنائية مثل الأعاصير والفيضانات. وبالفعل، أثبتت الجائحة ضرورة تعزيز وإنفاذ مثل هذه السياسات.
على نحو مماثل، كان قانون خفض التضخم يحتوي على أحكام لخفض أسعار الأدوية مثل الأنسولين -وهو دواء لا غنى عنه (يعود تاريخه إلى قرن من الزمن) لمرضى السكري- من مستويات باهظة بشكل واضح. مع ذلك، تستطيع الولايات المتحدة أن تبذل مزيدا من الجهد لخفض أسعار الأدوية إلى مستويات أقرب إلى تلك في أوروبا، حيث توجد قوانين أقوى ضد إساءة استخدام القوة السوقية. وستسعى هاريس إلى القيام بذلك على وجه التحديد، في حين وعد ترمب بتفكيك قانون خفض التضخم، وبالتالي زيادة الأسعار التي يتحملها الأمريكيون.
وَعَـدَ ترمب أيضا برفع الرسوم الجمركية -إلى معدل 100% على السلع القادمة من الصين- وهو ما من شأنه ببساطة أن يزيد من أسعار الملابس، والأجهزة المنزلية، وكثير من السلع الأخرى التي يشتريها الأمريكيون العاديون. الواقع أن أجندته الاقتصادية بالكامل تتلخص في فرض ضريبة رجعية ضخمة على الأمريكيين من ذوي الدخل المنخفض والمتوسط. وستتقلص حريتهم كمستهلكين، لأن المتاح لهم من مال يمكنهم إنفاقه كما يحلو لهم سيكون أقل.
علاوة على ذلك، في حين أصدرت هاريس خطة شاملة لتوسيع المعروض من المساكن وخفض تكلفتها -وزيادة قدرة مشتري المساكن لأول مرة على تحمل تكلفتها- التزم ترمب الصمت بشأن هذه القضية الـحَـرِجة.
أخيرا، لدعم حرية الأمريكيين في الارتقاء إلى مستوى إمكاناتهم، تتضمن أجندة هاريس رؤية واضحة وبعض الخطوات الأولية الملموسة نحو توسيع الفرص، وخاصة في مجال ريادة الأعمال. مثل هذه التدابير ستكون نافعة لأولئك الذين يأملون في بدء عمل تجاري بقدر ما ستكون مفيدة للاقتصاد في مجمل الأمر.
خاص بـ"الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024