شح الطاقة .. تقويض للصناعة
لا يخفى على كل ذي لب أن اختلال منظومة الطاقة، وعدم استقرارها، وانتظام إمداداتها في أي بلد ما، سيؤثر سلبا بلا شك في جميع الأنشطة الاقتصادية والنواحي الاجتماعية وغيرها، لذلك نجد أن قضية أمن الطاقة العالمي ليست قضية عابرة، بل قضية جوهرية لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال، بل يجب التعامل معها بموضوعية، واستشراف مستقبلها بتحييد الأجندات السياسية، والمصالح الآنية ضيقة الأفق. الطاقة شريان الاقتصاد، ومحرك التنمية، وقلب التطور النابض، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال دورها التاريخي، وأهميتها حاضرا ومستقبلا، وارتباطها ارتباطا وثيقا بالاستدامة.
من أهم ركائز النمو الاقتصادي لأي دولة هي الصناعة حيث أنها في اعتقادي الركيزة الأهم والباب الكبير نحو اقتصاد متين ومستدام، ولنمو القطاع الصناعي واستدامته لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال الشريان الرئيس الذي يغذي هذا القطاع المهم، وهو شريان الطاقة. المتأمل في الثورات الصناعية بمراحلها المختلفة، ابتداء من شرارة الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا باكتشاف الآلة البخارية في منتصف القرن الـ18، المتأمل في هذه الثورات الصناعية يجد أنها لم تكن لتتحقق بمنأى عن الطاقة، بل كانت الطاقة هي أساسها ومحركها الرئيس، ما يعكس أهميتها وأهمية استدامتها وسلامة شرايينها وإمداداتها.
كما أن التاريخ أثبت أن الطاقة كانت روح الصناعة وجوهر ثوراتها، فإن الحاضر الذي نعيشه الآن يؤكد أن شحها في المقابل يعد أكبر تهديدا للصناعة وأعظم خطرا عليها. ما حدث في أوروبا بسبب الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا التي تسببت في توقف إمدادات الغاز والنفط الروسيين كليا أو جزئيا عن دول أوروبا، علق جرس الخطر في رأيي، وأثبت حاجة العالم إلى استقرار أسواق الطاقة العالمية وإمداداتها.
بحسب رابطة المصنعين البريطانيين، أن نحو نصف المصانع البريطانية شهد زيادة في فواتير الكهرباء 100 % خلال فترة الحرب، وأن منظم الطاقة البريطاني أعلن رفع الحد الأعلى لفواتير الكهرباء للمستهلكين بمقدار 80 % ارتفاع أسعار الكهرباء هدد الصناعة البريطانية بصورة كبيرة وأدى إلى إغلاق عدد كبير من المصانع، وكذلك بعض دول أوروبا الأخرى. شح الطاقة سيدفع بأسعار منتجاتها إلى مستويات سعرية مرتفعة جدا، وهذا سيؤثر في جميع النواحي والأنشطة، خصوصا للدول المستهلكة، ويعد ذلك أيضا أكبر تهديد للصناعة وأعظم خطر عليها.
ما أعنيه هنا وأود تسليط الضوء عليه أن معادلة توازن واستقرار أسواق الطاقة وأسعارها في مستويات عادلة للمنتجين والمستهلكين على حد سواء هي معادلة معقدة جدا، كون هناك عدد كبير جدا من العوامل التي تؤثر في هذه المعادلة. الخطر الحقيقي في اعتقادي ليس ارتفاع الأسعار أو انخفاضها إلى مستويات تاريخية لمدة من الزمن، بل الخطر الحقيقي هو تقويض صناعة النفط والاستثمار فيه حتى يصطدم العالم بشح في الطاقة يعطل تنميته وينحر صناعته من الوريد إلى الوريد.