الطاقة ومراكز البيانات .. السعودية تنوع اقتصادها من النفط القديم إلى الجديد

الطاقة ومراكز البيانات .. السعودية تنوع اقتصادها من النفط القديم إلى الجديد
إطلاق أول صندوق لمراكز البيانات في أكتوبر 2021.

جلس "جيمس" في مختبره مواصلا كتابة أبحاثه العلمية وحل المعادلات الرياضية الصعبة إلى حين غليان مياه الاستحمام، فجأة سمع صوت سقوط غطاء غلاية المياه على الأرض، وبدلا من إطفاء النيران وقف يتأمل قوة البخار التي أسقطت الغطاء.

ذلك كان كافيا لأن يطوّر المبتكر البريطاني أول مُحرك بخاري عام 1769، وبحسب المؤرخ الأمريكي "إريك هوبزباوم"، لولا مُحرك جيمس واط لما توصل العالم إلى الكهرباء، ولما ظهرت الآلات الكهربائية التي أحدثت الثورة الصناعية بعد سنوات قليلة في أوروبا، بيد أن هذا الوجه المشرق من التقدم البشري صاحبه طلب متزايد على الفحم المصدر الأساسي للوقود آنذاك، ما أدى إلى التوسّع في حفر المناجم، نتج عن ذلك أزمة فحم أثرت في إنارة البيوت وتدفئتها، بجانب المشكلات البيئية والصحية الكبيرة.

القصة تتكرر بعد 3 قرون، وإن اختلف شكلها ومضمونها، فبدلا من الآلات الكهربائية، الفحم، ظهرت مشكلة مراكز البيانات الضخمة، والمقصود بها الأماكن المخصصة لتخزين أجهزة الحوسبة والذكاء الاصطناعي، والمعدات ذات الصلة، وكل ما تتطلبه أنظمة تقنية المعلومات مثل الخوادم ومحركات تخزين البيانات ومعدات الشبكة، ونظرا لضخامة الأجهزة، فإنها تستهلك كهرباء بكميات كبيرة، وصلت إلى أن مركز البيانات الواحد، يستهلك في اليوم، ما يعادل تشغيل 240 ألف منزل خلال عام، ونتيجة حاجة مراكز البيانات الضخمة إلى الطاقة باستمرار، يتزايد استخدام الوقود خاصة التقليدي، ما يؤدي في النهاية إلى زيادة فاتورة التغيرات المناخية المتوقع أن تصل إلى 38 تريليون دولار عام 2049.

تلك الإشكالية، دفعت محافظ صندوق الاستثمارات العامة السعودي، ياسر الرميان، إلى التشديد على ضرورة مواجهة هذا التحدي من خلال الطاقة المتجددة، خاصة فيما يتعلق بتشغيل أجهزة الذكاء الاصطناعي التي تعد ركنا أساسيا في مراكز البيانات، كما حذر الرميان من استمرار الوضع الحالي، فتطبيق مثل "شات جي بي تي" يستهلك في يوم واحد ما يعادل استهلاك 283 ألف منزل في كاليفورنيا من الكهرباء خلال سنة كاملة.

تحذيرات الرميان للغربيين سبقها نجاح السعودية في حل المعادلة الصعبة، بعد أن تمكنت الرياض من أن تصبح عاصمة لمراكز البيانات في الشرق الأوسط باستخدامها الغاز والطاقة المتجددة لتشغيل تلك المراكز، ما يعني الحفاظ على البيئة من ناحية، ومن ناحية أخرى انخفاض التكلفة، إذ وصلت تكلفة الطاقة المستخدمة في بناء مراكز البيانات السعودية إلى 4.8 سنت أمريكي للكيلو واط باستخدام الغاز، وسنتين فقط باستخدام الطاقة المتجددة، ما يعني أنها الأرخص عالميا بحسب تصريحات أمين الناصر، رئيس شركة أرامكو.

هذا النجاح السعودي، لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج عمل بدأ مع رؤية 2030، تنويع مصادر الدخل بعيدا عن النفط وكذلك التحول الرقمي بشكل كامل، وتوفير كافة الخدمات الحكومية عن بعد وإتاحة الوصول إليها بسهولة، إضافة إلى التخطيط لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية في هذا القطاع الذي كان حينها من أكثر القطاعات صعودا.

وبعد نجاح متصاعد، تم إطلاق الصندوق السعودي لمراكز البيانات في أكتوبر 2021، ليكون الأول من نوعه في السعودية، وبرأسمال 1.5 مليار ريال، وبهدف بناء وامتلاك وتشغيل 6 مراكز بيانات ضخمة.

وخلال السنوات الثلاث الماضية، استطاعت السعودية أن تحقق خطوات كبيرة في هذا القطاع، فأعلنت شركة أرامكو في فبراير 2023 عن بناء أول مركز بيانات عالمي لدعم التحول الرقمي، وفي نفس العام أصدرت وكالة بلومبرغ تقريرا أوضحت فيه أن الرياض مؤهلة لأن تصبح عاصمة لمراكز البيانات في منطقة الخليج والشرق الأوسط، بما تملكه من بنية رقمية قوية، وتوجه الدولة للتسهيل على المستثمرين في هذا القطاع، إضافة إلى نجاح السعودية في إطلاق مراكز بحثية كبرى، أنتجت نماذج كبيرة الحجم شبيهة بشات جي بي تي.

كل هذا، أدى في النهاية لأن تصل سوق مراكز البيانات في السعودية إلى 1.78 مليار دولار في 2023، مع توقعات بأن تصل إلى 3.18 مليار دولار بحلول 2029، بمعدل نمو سنوي يصل إلى 10%، خاصة بعد أن توجهت السعودية إلى الخدمات السحابية، التي تعني السماح للشركات العالمية الكبرى ببناء مراكز بيانات في السعودية، والاستفادة من البنية الرقمية القوية، وهو ما دفع شركات مثل "أمازون" و"داتا فولت" إلى إعلان نيتهما الاستثمار في السعودية بما يفوق 11 مليار دولار في هذا المجال، كما تستعد شركات أخرى للانضمام مثل "علي بابا كلاود" و"مايكروسوفت".

وبحسب أمسال كابيتانوفيتش، مدير شركة إنفوبيب السحابية التي اختارت السعودية لاستضافة أول مركز بيانات لها، "فإن المملكة إحدى الأسواق الرئيسية في عمليات اتخاذ القرارات الإقليمية، بجانب وجود إستراتيجية واضحة وسوق قوية، تجعل الانتقال إلى الرياض خطوة مهمة"، وإذا كان هذا حديث "أمسال"، فانخفاض التكلفة واستخدام الطاقة المتجددة في مراكز البيانات، أدى إلى زيادة مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي ليصل عام 2022 إلى 14%، كما بلغت نسبة المنشآت التي اشترت خدمات الحوسبة السحابية 48% من إجمالي المؤسسات العاملة في السعودية.

وفقا لـ"ستاستيا"، تتصدر أمريكا قائمة أكثر الدول التي تملك مراكز بيانات، وذلك بنحو 2653 مركزا، وتليها مباشرة إنجلترا بـ451 مركزا فقط، ومع ذلك رفضت الهيئة التنظيمية العليا للطاقة في الولايات المتحدة قبل أسبوع، اتفاقا خاصا كان سيسمح لمركز بيانات تابع لشركة أمازون باستخدام مزيد من الكهرباء لمراكز بياناتها المتعطشة للطاقة الكهربائية من مولدات محطة طاقة نووية مجاورة، سبقها استثمار الشركة العالمية في شركة إكس إنرجي المتخصصة في تطوير الطاقة النووية، من أجل إنشاء مفاعلات نووية صغيرة تنتج كهرباء منخفضة الكربون لتشغيل مراكز البيانات الخاصة بها.

لكن تلك الطرق قد لا تبدو مغرية في ظل توفير السعودية الطاقة اللازمة بأسعار منخفضة دون ضرر بيئي، وإذا كان عالم الرياضيات البريطاني كليف هامبي أطلق على البيانات مصطلح "النفط الجديد"، فإن السعودية التي تتصدر تاريخيا صناعة النفط، لن ترضى سوى بأن تكون إمبراطورالنفط القديم والجديد.

الأكثر قراءة