البنوك المركزية والسيطرة على التضخم

كان الهدف الأساسي للبنوك المركزية في العالم خلال آخر عامين هو كيفية ترويج التضخم وإعادته إلى المستويات المستهدفة البالغة 2 %، وذلك في ظل ظروف اقتصادية صعبة ووضع جيوسياسي عالمي متقلب. لجأت البنوك إلى استخدام أدواتها، عبر رفع الفائدة بمعدلات قياسية في فترات زمنية قصيرة.

ومع حلول 2024 بدأت السياسة تأتي بثمارها وأخذ التضخم منحنى تنازلي، ووصل في عديد من الاقتصادات المتقدمة إلى المستويات المستهدفة.

ولكن النجاح في السيطرة على التضخم كان له أثار سلبية في الاقتصاد. حيث أدت تكاليف الاقتراض المرتفعة إلى تأثير مباشر في الأنشطة الإنتاجية، وتراجع في معدلات الطلب والإنفاق الاستهلاكي. وهو ما دفع في النهاية إلى انكماش اقتصادي في عديد من الاقتصادات الكبرى في العالم.

وعند النظر إلى معدلات التضخم في أكبر اقتصادات العالم نرى النجاح الذي حققته السياسات النقدية. في الولايات المتحدة وصل التضخم بحلول سبتمبر 2024 إلى 2.4%، وذلك مقارنة بـ 9.1% في يونيو 2022.

في منطقة اليورو وصل التضخم إلى المستويات المستهدفة خلال أكتوبر 2024 مسجلا 2%، مدعومًا بشكل أساسي بالتباطؤ في أهم اقتصادات المنطقة. حيث هبط التضخم في ألمانيا أكبر اقتصاد في القارة خلال أكتوبر 2024 إلى 2%، وفي فرنسا إلى 1.2%، وفي إيطاليا إلى 0.9% وذلك خلال نفس الفترة.

وصول التضخم إلى المستهدف إعاد تشكيل الأولويات لدى البنوك المركزية، وأتاح لها حرية أكبر في التحرك لدعم النشاط الاقتصادي عبر البدء في خفض الفائدة.

على سبيل المثال قام الفيدرالي بخفض الفائدة في مناسبتين لتصل بحلول نوفمبر 2024 إلى 4.75% مقارنة بـ5.5% في أغسطس من نفس العام. في منطقة اليورو خفض البنك المركزي الأوروبي الفائدة إلى 3.4% بحلول نوفمبر وذلك مقارنة مع 4.5% في مايو 2024. وقد اتبع المسار عديد من البنوك المركزية الأخري مثل بنك إنكتلرا وبنك كندا.

تلك الإجراءات من المتوقع أن يكون لها تأثير إيجابي في الاقتصاد العالمي. فخفض الفائدة يعني تمكين القطاعات الإنتاجية من الوصول إلى التمويل بتكاليف أقل، ويغذي قدرة المستهلك على الإنفاق، وهو ما يصب في النهاية في دعم الطلب، ودعم أسواق العمل ومعدلات التشغيل المتأثرة بسبب الانكماش الاقتصادي وتراجع قدرة القطاع الخاص والشركات على التوظيف.

وعلى الرغم من النجاحات المحققة لخفض التضخم، إلا أنه مازال معرض لعديد من الصدمات التي قد تؤدي إلى دفعه للارتفاع مجددًا في الأجل القصير. أول تلك الصدمات هي التغيرات المناخية مثل الجفاف والفيضانات والارتفاع في درجات الحرارة التي تضرب العالم، وتؤثر بشكل مباشر في إنتاج عديد من السلع المهمة مثل القمح والأرز، ما يجعل أسعارها معرضة للارتفاع بشكل مفاجئ.

فوفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) فقد ارتفعت أسعار الغذاء العالمية خلال أكتوبر 2024 إلى أعلى مستوى في 18 شهرًا. واحدة من أهم أسباب الارتفاع كان التغيرات المناخية التي ضربت عديد من المناطق مثل روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأرجنتين وأثرت في إنتاج عديد من المحاصيل الرئيسية.

استمرار الوضع الجيوسياسي غير المستقر سواء في الشرق الأوسط أو بين روسيا وأوكرانيا يجعل التضخم معرضا للصعود مرة أخرى. بسبب ارتفاع تكاليف الشحن مع تأثر ممرات التجارة العالمية المهمة.

تسارع وتيرة الخلافات التجارية بين القوى الكبرى في العالم، واتجاه عديد من الدول لفرض رسوم جمركية على الورادات بمستويات مرتفعة، يجعل التضخم معرض لصدمة جديدة في الأجل القصير في حالة الشروع في تنفيذ تلك السياسات التجارية.

ختامًا فقد نجحت البنوك المركزية في تحقيق أهدافها وتمكنت من إعادة التضخم إلى المستويات المستهدفة. ولكن كان لتلك السياسات ضريبة كبيرة تمثلت في التأثير في النشاط الاقتصادي ودفعه في عديد من الدول إلى الانكماش. لذلك فإن أولويات البنوك في المرحلة المقبلة ستركز على كيفية تنشيط الاقتصاد ودعم الإنتاج والتشغيل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي