شركات الذكاء الاصطناعي تبحث عن تكتيكات جديدة لمواجهة العقبات
تسارعت خطوات تقدم الذكاء الاصطناعي التوليدي على مدى عامين منذ أن أطلقت "أوبن إيه آي" شرارة عصره مع طرحها لبرنامج "تشات جي بي تي". خلال هذه الفترة، قدمت الشركة، وكذلك منافساتها الرئيسيات "أنثروبيك" و"جوجل" و"ميتا"، سلسلة من نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة فاقت كل منها سابقاتها براعة.
اليوم، يؤمن وادي السليكون بأن زيادة قوة الحوسبة وتوسيع نطاق البيانات وتطوير نماذج أضخم، ستؤدي إلى تقدم جوهري في مجال الذكاء الاصطناعي بما يمكن هذه التقنية من إحداث تحولات جذرية في قطاعات شتى خلال السنوات المقبلة.
عقبات تعترض مزيداً من التطور
لكن بدأت تظهر تهديدات تعيق وتيرة هذا التطور حتى قبل أن يكمل "تشات جي بي تي" عامه الثاني. فقد واجهت "أوبن إيه أي" وشركتان رائدتان أخريان في مجال الذكاء الاصطناعي بعض المطبات في 2024.
في كل من "أوبن إيه أي" و"جوجل"، لم ترتق بعض البرامج الإلكترونية إلى مستوى التوقعات الداخلية، فيما تأخر طرح نموذج منافس طال انتظاره من "أنثروبيك" بناه موظفون سابقون في "أوبن إيه أي"، على الرغم من أنهم كانوا قد أعلنوا عن موعده.
إن تباطأ تطور الذكاء الاصطناعي التوليدي لفترة أطول، سيجعل قدرة التقنية على تحقيق الوعود الطموحة التي أطلقها كبار المبتكرين في القطاع موضع شك، وبالتالي، سيصبح إيجاد طرق للدفع بطفرة الذكاء الاصطناعي نحو المرحلة التالية التحدي الأكبر في 2025.
تواجه الشركات عدة تحديات، منها ازدياد صعوبة العثور على مصادر جديدة للبيانات التدريبية عالية الجودة التي يصنعها البشر، ما يعيق تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر تقدماً. بالإضافة إلى ذلك، فإن التحسينات المحدودة في أداء الذكاء الاصطناعي قد لا تبرر التكاليف الباهظة المرتبطة بإنشاء النماذج الجديدة وتشغيلها.
أشار داريو أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة "أنثروبيك"، إلى أن تكلفة تدريب نموذج عالي التطور تقدر حالياً بنحو 100 مليون دولار، ويتوقع أن تقفز هذه التكلفة إلى 100 مليار دولار خلال الأعوام المقبلة. من جانبها، أكدت سارة فريير، الرئيسة المالية لدى "أوبن إيه آي"، أن تطوير النموذج المتقدم المقبل للشركة سيكلف مليارات الدولارات، مشيرة إلى أن هناك حاجة مستمرة "لنماذج أضخم ستكون مكلفة أكثر".
تدريب على التفكير مثل البشر
تثير هذه القضايا تساؤلات حول مليارات الدولارات المستثمرة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتطرح علامة استفهام حول الهدف الذي تسعى هذه الشركات بشراسة لتحقيقه، وهو تطوير ذكاء اصطناعي عام قادر على مضاهاة البشر أو التفوق عليهم في مجموعة واسعة من المهام. وقد أكد الرؤساء التنفيذيون لكل من "أوبن إيه آي" و"أنثروبيك" سابقا على أن الذكاء الاصطناعي العام قد يصبح واقعاً في غضون أعوام قليلة، رافضين أي طرح عن بلوغ طريق مسدود.
لكن نبرة بعض قادة القطاع كانت أكثر تواضعاً. قال سوندار بيتشاي، رئيس "جوجل" التنفيذي، خلال مشاركته في قمة "ديلبوك" (DealBook) التي نظمتها صحيفة "نيويورك تايمز" مطلع ديسمبر: "أعتقد أن تحقيق التقدم سيزداد صعوبة... لقد تجاوزنا مرحلة الإنجازات السهلة، وازدادت الطريق وعورة".
في قطاع يتفاخر بالابتكار، تبحث الشركات عن سبل مختلفة من أجل الدفع قدماً بنماذج الذكاء الاصطناعي. وتشمل الجهود في هذا المجال تدريب أجهزة الكمبيوتر على طريقة تمعن البشر بمشكلة للتوصل إلى حل أفضل لها، إضافة إلى بناء نماذج تتميز بمهارات استثنائية في مهام محددة، وتدريب الذكاء الاصطناعي باستخدام بيانات تُنتجها أنظمة ذكاء اصطناعي أخرى.
كانت "أوبن إيه أي" من أوائل داعمي برامج الذكاء الاصطناعي القادرة على التفكير بطريقة مشابهة للبشر من أجل حلّ مسائل أعقد، والتحسن مع الوقت، بالأخص في ما يتعلّق بأسئلة حول الرياضيات والعلوم والتشفير. وقد كشفت الشركة في سبتمبر عن نسخة ابتدائية من نموذج يحمل اسم (o1) يفعل ذلك عبر معالجة الإجابة لوقت أطول، قبل الرد على سؤال المستخدم. وأعلنت "أوبن إيه أي" عن نسخة محسّنة من هذا النموذج في ديسمبر، وصفها الرئيس التنفيذي للشركة سام ألتمان عبر وسائل التواصل الاجتماعي بـ"النموذج الأذكى في العالم".
بلغت ثقة الشركة بـ (o1) درجة جعلتها تشرع ببيع اشتراكاته الشهرية مقابل 200 دولار، وهي تتيح للمشتركين استخدام نسخة من النموذج تستهلك قوة حوسبة أكبر للإجابة على الأسئلة.
استخدام البيانات الاصطناعية
تعمل عدة شركات أخرى، بينها "جوجل" وصانعة البرامج الإلكترونية "داتابريكس" (Databricks) على تطوير نسخ خاصة تنتهج الأسلوب نفسه الذي غالباً ما يشار إليه بتسمية "الحوسبة في وقت الاختبار" أو "حوسبة وقت الاستدلال".
ويتوقع جوناثان فرانكل، كبير العلماء المتخصصين بالذكاء الاصطناعي في "داتابريكس" انتشار هذه التقنية بشكل أوسع في القطاع، ويرى أنه بالإضافة إلى تحسينها جودة الإجابات، يمكنها أيضاً أن تعالج بعض الجوانب الاقتصادية لبناء نماذج الذكاء الاصطناعي من خلال تأجيل بعض التكاليف من مرحلة التطوير في فترة ما قبل طرح المنتج إلى مرحلة بدء استخدامه، حين يكون قد بدأ بتوليد الإيرادات.
لكن منح التقنية هذه القدرة المعمّقة على التفكير لا يحلّ مشكلة شهية الذكاء الاصطناعي المفتوحة للبيانات. لذا، بدأت الشركات تتجه باضطراد نحو استخدام بيانات اصطناعية تتخذ أشكالاً متنوعة، مثل النصوص المولدة بواسطة الكمبيوتر التي تحاكي المحتوى الذي ينتجه البشر.
قال نيثان لامبرد، الباحث في معهد "ألن إيه أي" (Allen Institute for AI) إنه خلال تطويره نموذجاً يحمل اسم "تولو 3" (Tulu 3)، طلب من الذكاء الاصطناعي طرح أسئلة استناداً إلى بعض الشخصيات. فطلب منه مثلاً التظاهر أنه رائد فضاء وإنشاء مسألة رياضية متعلقة بهذه المهنة، فكان الذكاء الاصطناعي يطرح أسئلة من قبيل كم ستكون المسافة بين القمر والشمس في وقت محدد من اليوم. لقّن لامبرد تلك الأسئلة مجدداً إلى النموذج، ثمّ استخدم الأسئلة والأجوبة معاً من أجل صقل النظام الذي كان يعمل عليه. المدهش أن هذه الطريقة حسّنت مهارات "تولو 3" في مجال الرياضيات. قال لامبرت: "لا نعرف لماذا هذه الطريقة ناجحة تماماً... هذا هو الجانب المثير في البيانات الاصطناعية".
لا يوجد طريق مسدود
النماذج اللغوية الضخمة، مثل تلك التي تشغل "تشات جي بي تي"، مصممة لمحاكاة الكلمات التي يستخدمها البشر في تواصلهم. بالتالي، فإن الاكتفاء بتدريب نظام الذكاء الاصطناعي على المحتوى الذي ينتجه هو بنفسه لن يؤدي إلى تحسينات ملموسة، حسبما يرى فرانكل.
من جانبه، يشدد لامبرت على أهمية ترشيح البيانات المولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي لتجنب التكرار وضمان الدقة. كما عبّر بعض الباحثين عن قلقهم من أن الاستخدام العشوائي لهذه البيانات في تدريب النماذج قد يضر بأدائها، وهو ما يعرف بـ "انهيار النموذج".
تتوقع فيفي لي، المديرة الشريكة لمعهد الذكاء الاصطناعي المرتكز على البشر في جامعة ستانفورد، ومؤسسة الشركة الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي "وورلد لابز" (World Labs) أن تعتمد شركات الذكاء الاصطناعي باضطراد على البيانات الاصطناعية.
وأشارت إلى أن القائمين على تطوير تقنية المركبات ذاتية القيادة لطالما اعتمدوا على بيانات قيادة تعتمد على المحاكاة. قالت: "في البنية التقنية للذكاء الاصطناعي، أهمية البيانات تضاهي أهمية الخوارزميات، وللبيانات الاصطناعية دور كبير في هذا السياق".
تتجلى أهمية التحديات التي تواجه توسيع نطاق النماذج العامة عند العمل على تطوير الذكاء الاصطناعي العام. مع ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي قد صُمم تاريخياً ليختص في مهام محددة، ويؤكد فرانكل أن هناك مجالاً واسعاً للابتكار في هذا الصدد، وهو متفائل بشكل عام بمستقبل المجال.
يشبّه فرانكل ما يحدث اليوم في قطاع الذكاء الاصطناعي بما شهدته صناعة الرقائق الإلكترونية في الماضي، حيث كان مطورو الرقائق يواجهون ما يبدو طريقاً مسدوداً، ثم يتوصلون إلى ابتكارات جديدة مثل المعالجات متعددة النوى، والمعالجات المساعدة، والمعالجة المتوازية، ما سمح باستمرار تحسين التقنية.
قال: "بالعودة إلى أيام أشباه الموصلات، كنت تنتقل من ابتكار إلى آخر، وتستمر بالحركة إلى الأمام".