افتقاد أوروبا للقيادة يعيق التصدي لتهديدات ترمب

افتقاد أوروبا للقيادة يعيق التصدي لتهديدات ترمب

هدد دونالد ترمب بإقحام الاتحاد الأوروبي في جولة جديدة من الحروب التجارية وبإملاء اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا من شأنه وحده أن يعيد رسم هيكلية أمن المنطقة. مع ذلك، فإن عدداً من زعماء أوروبا يواجهون ضغوطاً داخلية كبيرة لدرجة أنهم لا يملكون نفوذا سياسيا كافيا ليتخذوا إجراءات حاسمة بشأن الشؤون العالمية.

يفتقر المستعدون منهم لوضع خطة لتعزيز الدفاعات الاقتصادية والعسكرية في القارة إلى القوة اللازمة لإنجاز الأمور. بعبارة أخرى، يعاني الاتحاد الأوروبي من مشكلة قيادة، هذا حال قد يهيمن على أوروبا لعقود. لقد كافحت منطقة اليورو، المكونة من 20 عضوا، سعيا للنمو منذ تلاشى الانتعاش الذي هندسته الحوافز الحكومية.

رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق ماريو دراغي، حذر خلال إيجاز في سبتمبر قدم فيه تقريرا مليئا بالوصفات السياسية، من أن أوروبا ستحتاج إلى استثمارات إضافية بقيمة 800 مليار يورو (840 مليار دولار) سنويا لتعزيز قدرتها التنافسية وجيوشها أو أنها ستستسلم إلى "معاناة بطيئة".

تحالف ضعيف

في الوقت نفسه، لا يبدو أن التحالف الفرنسي الألماني الذي اعتمدت عليه القارة لتشكيل مصيرها المشترك قد بدأ يستعيد قوته هذه المرة. فقد أصبح رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون عاجزاً عن الاستمرار في منصبه، وهو منشغل بمنع عدوته اللدودة مارين لوبان من خلافته. كما أن ألمانيا تموضعت لإقصاء المستشار أولاف شولتس في انتخابات مبكرة في 23 فبراير.

لقد حاولت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن تملأ الفراغ، فقد اختتمت حديثا مفاوضات بشأن اتفاقية تجارية، استغرقت 25 عاما، بين أوروبا ومجموعة من دول أمريكا الجنوبية. وهي تراهن على أن عددا كافيا من أعضاء الاتحاد الأوروبي سيصادقون عليها لمساعدتها في التغلب على المعارضة الشديدة في فرنسا.

كانت هناك مناسبات عندما أبقت الدول الأعضاء أو مسؤولي المفوضية الآخرين في الظلام حتى اللحظة الأخيرة قبل أن تتقدم بمقترحات أو تعلن عن قرارات، معتقدة أن الإحراج الناجم عن الاضطرار إلى معارضتها علناً كفيل بردع الخصوم.

مخضرمة لكنها بحاجة لشركاء

هذه بعض التكتيكات التي صقلتها فون دير لاين خلال فترة ولايتها الأولى كرئيسة للمفوضية الأوروبية، وتضمنت مهام بارزة مثل هندسة استجابات أوروبا لكوفيد وغزو روسيا لأوكرانيا.

يقول غونترام وولف، وهو زميل بارز في مؤسسة بروغل للأبحاث الاقتصادية في بروكسل "كانت فون دير لاين في طليعة كثير من القضايا. مشكلتها هي أنها لا تستطيع القيادة بمفردها. إنها بحاجة إلى الدول الأعضاء، وبالتالي إلى الحكومات المستقرة في باريس وبرلين"، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمعالجة القضايا الأهم.

مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض التي تغذي المخاوف من أن الولايات المتحدة ستخفض مشاركتها مع حلف شمال الأطلسي والمساعدات العسكرية لأوكرانيا، يحتل الدفاع المرتبة الأعلى في قائمة مهام الاتحاد الأوروبي.

يناقش الاتحاد إصلاحاً كبيراً لسياسته الدفاعية المشتركة -مستقلة عن المظلة الأمنية لمنظمة حلف شمال الأطلسي- ويدرس خيارات لتمويل مشترك للاستثمارات العسكرية التي قد تصل إلى نصف تريليون يورو على مدى عقد.

في حين أن باريس ستكون منخرطةً، فإن برلين تعارض السماح للاتحاد الأوروبي باقتراض مبالغ كبيرة نيابة عن جميع الدول الأعضاء، حتى بعدما تمكن شولتس من حشد الدعم لجهود ترمي لجمع 800 مليار يورو بشكل مشترك للإغاثة إبان الجائحة.

على الورق على الأقل، تعمل أوروبا على توحيد أسواق رأس المال منذ ما يقرب من عقد، بعدما أزالت في السابق الحواجز أمام حرية حركة السلع والأشخاص. مع ذلك، فإن الأولويات الوطنية المتباينة ثبطت التقدم نحو هذا الهدف وهذا من شأنه أن يسهل مهمة جمع الأموال لتمويل مجموعة من الأولويات، من تطوير أنظمة الأسلحة إلى البرامج لتحفيز تبني التقنيات الجديدة.

اتحاد لإدارة الأزمات

إن ثمن التقاعس يتفاقم، وتقدره بلومبرج إيكونوميكس بأكثر من 3 تريليونات يورو سنويا. وبهذا القدر كان ينبغي أن يكون الاقتصاد الأوروبي أكبر لو نمت إنتاجيته منذ مطلع الألفية بما يوازي نمو اقتصاد الولايات المتحدة.

جاكوب روس الذي يدرس العلاقات الفرنسية الألمانية كزميل باحث في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية قال "لم يعد اتحاد أوروبا يثير الحماسة، ويبدو اليوم أن سبب وجوده الرئيسي بات إدارة الأزمات".

مع ذلك يمكن للأزمات أن تساعد على كسر الجمود السياسي. حدث ذلك في العقد الماضي، عندما ساعدت بلجيكا في هندسة عمليات إنقاذ الديون لليونان والبرتغال وإسبانيا بدلا من المخاطرة بتخلي دولة أو أكثر عن اليورو.

يمكن أن تساعد المخاطر الناجمة عن رئاسة ترمب الثانية على ربط أوثق بين هذه البلدان. قال روس: "بالنسبة للقادة الأوروبيين، مشين أن يتطلب الأمر ضغوطاً من رئيس أمريكي شعبوي لتجتمع أوروبا معا".

أثارت ولاية ترمب الأولى إحياء صغيرا في العلاقات الفرنسية الألمانية توج باتفاقية صداقة جديدة، بعد 56 عاما من معاهدة الإليزيه التاريخية التي تصالح فيها البلدان بعد الحرب العالمية الثانية. لكن كثيراً من حسن النية تبدد منذئذ، ولا تبدو آفاق التعاون بين أكبر اقتصادين في أوروبا واعدة بتميز راهنا.

توجهات ألمانيا وفرنسا

في ألمانيا، انتقد فريدريخ ميرتز، المحافظ الذي يتطلع إلى منصب المستشار، الحكومة الحالية ووصفها بأنها "فشل تام" لعدم الانخراط مع بروكسل أو مع زعماء أوروبيين آخرين في مجموعة من القضايا المشتركة، بما في ذلك الضوابط المفروضة على الهجرة غير الشرعية.

أما ماكرون، الذي أطلق على نفسه ذات يوم منقذ أوروبا، فبقي له أكثر من عامين في ولايته، لكنه مقيد ببرلمان منقسم. (في فرنسا بات لمكتب رئيس الوزراء باب دوار بما يشابه الحال الإيطالي؛ وقد عُيّن رئيس الوزراء الرابع للبلاد خلال 2024 في ديسمبر).

تقول إيزابيل ماتيوس إي لاغو، كبيرة خبراء الاقتصاد في "بي إن بي باريبا" : "سنحصل على مزيد من الوضوح بشأن اتجاه السياسة الألمانية والفرنسية بحلول نهاية الربع الأول. حتى ذلك الحين، ينبغي للمفوضية الأوروبية أن تباشر العمل والتوصل إلى بعض الانتصارات السريعة لتحويل المد. إن الفراغ في السلطة في الأشهر القليلة المقبلة يشكل فرصة".

إنها فرصة ليس فقط لفون دير لاين بل وللزعماء الأوروبيين الساعين إلى مزيد من النفوذ. ستحاول جورجا ميلوني، التي أدارت إيطاليا لأكثر من عامين، وهو سجل مثير للإعجاب وفقا للمعايير التاريخية للبلاد، الاستفادة من علاقاتها الوثيقة مع ترمب ومستشاره، إيلون ماسك، وربما تصور نفسها كصانعة صفقات قادرة على نزع فتيل التهديدات، مثل فرض رسوم جمركية قدرها 20 % على السلع الأوروبية كما يلوح الرئيس الأمريكي الجديد.

كما كانت تقود مناقشات حول تشديد سياسات الهجرة في الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه، تعهد رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، الذي تولت بلاده للتو الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، بجعل الأمن - ليس فقط العسكري ولكن أيضا الغذائي والصحي - محورا لخطة عمله.

الخبيرة الاقتصادية الأوروبية التي تعمل لدى "كونفرنس بورد" ماريا ديميرتزيس قالت، إن إحدى أكبر مشكلات أوروبا هي أن الوزراء الذين يُرسلون إلى الاجتماعات في بروكسل يأتون إلى الطاولة "بمصالح وطنية في القلب... لو كانت لدينا رؤية بشأن الاقتصاد الأوروبي، فيمكننا تصميمها والبدء في تنفيذها“.

الأكثر قراءة