مكافحة التضخم لها ثمن

مر العالم حديثا بموجة غلاء (تضخم)، وهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. وطبعا يرغب الناس من حكوماتهم محاربة التضخم. ذلك أن ارتفاعات الأسعار كثيرا وخاصة السريعة مكلفة للناس، وتضغط تجاه ضعف استقرار الاقتصاد وخفض نموه. لكن محاربة التضخم ليست بلا ثمن. مثلا، زيادة معدلات الفائدة احد أدوية مكافحة التضخم، ولكن طبعا هناك أثار جانبية، منها أنها ترفع تكلفة التمويل والاستثمار، وتغري بانتقال بعض الاستثمارات المالية خارج البلاد طمعا في الحصول على عائد أعلى. وطبعا تهتم البنوك المركزية والهيئات الاقتصادية بتحليل الأوضاع الاقتصادية محليا وعالميا. وغالبا فإن أهم مواضع القلق من التضخم لدى تلك الجهات هو موضوع النمو الاقتصادي. هناك علاقة سببية بين النمو الاقتصادي ومعدلات التضخم. النمو يزيد من عرض النقود (كميات النقود التي بيد الناس) وزيادة العرض تقود إلى انخفاض قوتها الشرائية، أي التضخم، في معاكسة النمو.

هناك نظرة إلى أن صادرات الدول الآسيوية الرخيصة الثمن نسبيا (وخاصة صادرات الصين) قد عملت على تخفيض معدلات التضخم في الاقتصادات الكبرى، وعلى إضعاف تأثيراته، لكن يتوقع تقلص تأثير الصادرات الآسيوية والصينية في موجة التضخم العالمية، بسبب تأثيرات استمرار النمو الاقتصادي في الصين على الأسعار والأجور في الصين، خلاف أن هذا الاستمرار يعمل على إبقاء قوة الطلب على المعادن والنفط وغيرهما من المواد الخام خاصة.

على مستوى الأفراد، شهد الاقتراض الشخصي في السنوات الماضية توسعا شديدا مع انخفاض معدلات الفائدة. والتوسع في الاقتراض تسبب في ارتفاعات حادة في عرض النقود، ما أسهم في زيادة معدلات التضخم، حيث إن هناك علاقة طردية متناسبة بقوة بين التضخم وعرض النقود.

وكما قيل "داوني بـ التي كانت هي الداء"، زيادة معدلات التضخم تحفز على حدوث موجة تضخمية جديدة. ذلك لأن التضخم يجعل الناس تحت هاجس التخوف من استمرار موجة الارتفاع مستقبلا، وهذا بدوره يحفز العاملين في كثير من الدول–عادة عبر نقابات واتحادات العمال- إلى المطالبة بزيادة أجورهم عند تجديد عقود العمل. ولكن زيادة أجور العاملين تحمل الشركات على زيادة أسعار منتجاتها.

وهكذا ندور في حلقات يجر بعضها بعضا. وعمود النجاح أن يحدث ما يوقف دوران الحلقة، لكن هذا الإيقاف لا يخلو من ضحايا. ومعروف أن رفع سعر الفائدة (و/أو تصعيب شروط التمويل) تلجأ إليه السلطات النقدية بهدف الحد من الإقبال على طلب التمويل للحد من معدلات التضخم.

ماذا تقول نماذج التوقعات الاقتصادية ؟

النماذج الاقتصادية بناء قياسي يميل إلى التعقيد، وطبعا تعطي دلالات مستقبلة رقمية مبنية على ما يسميه البعض "إذا وقع كذا حصل كذا"، ومن ثم فهي تتوقع زيادة التضخم بنسبة كذا إذا زاد الطلب على العرض بنسبة كذا، والعكس بالعكس. كيف؟ موضوع طويل لا يخلو من صعوبة وتعقيدات. وزادت العولمة من الصعوبة والتعقيدات.

كيف يمكن للانضباط المالي والحكومي خاصة أن يساعد على مكافحة التضخم؟ سياسة المالية العامة يمكنها تيسير مهمة السياسة النقدية في خفض التضخم مع تخفيف المخاطر على الاستقرار المالي.

وزيادة في التوضيح، ترفع البنوك المركزية معدلات الفائدة، كما حدث في العام الماضي، للحد من الطلب واحتواء التضخم، الذي بلغ في كثير من البلدان أعلى مستوياته منذ دخول هذا القرن.

وبينما تمتلك السياسة النقدية الأدوات اللازمة لخفض التضخم، فإن سياسة المالية العامة تحاول وضع الاقتصاد على مسار أسلم في المدى الطويل من خلال الاستثمار في البنية التحتية والرعاية الطبية والتعليم وتوفير الخدمات العامة الأساسية، مع محاولة مزيد من التحسين في سياسات المالية العامة. وطبعا رصيد المالية العامة الكلي يؤثر في الطلب على السلع والخدمات وعلى الضغوط التضخمية. والموضوع طويل ومعقد. وبالله التوفيق.           

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي