عودة الغاز إلى مكانته السابقة في أمريكا حقيقية

إنتاج الغاز يتجه إلى الارتفاع في الولايات المتحدة وسط الطلب الكبير من شركات التكنولوجيا العملاقة

عندما يحني سكان مدينة نيويورك رؤوسهم اتقاءً للبرد والرياح القاسية، تُعد هذه إشارة على ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي في معظم الأوقات، ولا يشكل شهر يناير الجاري استثناءً لهذه القاعدة.
مع ذلك، فإن الارتفاع يتخطى الأوضاع الحالية، إذ يقترب متوسط أسعار العقود المستقبلية للتسليم خلال الـ12 شهراً المقبلة من تجاوز حاجز 4 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية لأول مرة منذ يناير 2023 عندما كانت الأسعار تتراجع من ارتفاعها المرتبط بحرب أوكرانيا العام السابق. وبعيداً عن الطقس البارد، هناك تحول في الوضع العام للغاز، يرتكز على ارتفاع الطلب على الكهرباء في الولايات المتحدة.
لأكثر من عقد، كان الغاز سبباً لسعادة المستهلكين، لكنه خيب آمال المستثمرين بشكل عام. ومكّن الغاز الصخري الوقود من منافسة الفحم والطاقة النووية، لكن ذلك في الأغلب كان عبر فائض الإنتاج الذي دفع الغاز إلى سوق هابطة هيكلياً.
في الوقت نفسه، مع تصاعد مطالب مكافحة تغير المناخ من خفض الانبعاثات إلى تحقيق صافي انبعاثات صفري، فإن القيود الطبيعية على الغاز -الذي لا يزال يسبب انبعاث الكربون عند حرقه وإن كان بكميات أقل من الفحم- عكرت صفو السردية السابقة بكونه "وقوداً انتقالياً".

مراكز البيانات ترفع الطلب على الكهرباء المولدة بالغاز

ارتفع الطلب على الكهرباء المولدة باستخدام الغاز، فيما تراجع على المولدة باستخدام الفحم، لكن استقرار الطلب على الكهرباء بشكل عام وزيادة انتشار مصادر الطاقة المتجددة وضعا حداً لهذا الارتفاع، لذلك أصبح لصادرات الغاز المسال دوراً حاسماً في استيعاب فائض العرض.
مع ذلك، فإن قطاع الطاقة هو من يثير الاهتمام بالغاز مجدداً في الفترة الحالية. فأخيراً يبدو أن استهلاك الكهرباء في الولايات المتحدة سيتجه إلى الارتفاع بفضل عودة الشركات المنتجة إلى البلاد، وتزايد استخدام الكهرباء، والعامل الأبرز؛ انتشار مراكز البيانات لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي.
بينما تعلن شركات التكنولوجيا الكبرى اهتمامها الشديد بالطاقة النووية، لا تزال المفاعلات الجديدة تحتاج لوقت طويل لتلبية الطموحات الحالية. لذلك تبرم كبرى شركات خدمات الحوسبة السحابية صفقات لتوليد الكهرباء باستخدام الغاز، مثل "ميتا بلاتفورمز" التي أبرمت في الآونة الأخيرة عقداً بمليارات الدولارات مع "إنترجي" في لويزيانا.
قبل عام تقريباً، أشارت خطط إنشاء محطات جديدة وإغلاق المنشآت الحالية، بحسب التقارير المقدمة إلى إدارة معلومات الطاقة، إلى انخفاض صافٍ في القدرة الإنتاجية باستخدام الغاز في الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من هذا العقد. إلا أن هذا الوضع تغير بالتأكيد.

صفقات متنوعة بقطاع الغاز في أمريكا

وصلت الأمور ذروتها عندما أعلنت "كونستليشن إنرجي" في الآونة الأخير الاستحواذ على "كالبين" (Calpine) في صفقة بقيمة 29 مليار دولار. وقد استحوذت شركة ملكية خاصة على "كالبين" في 2018 خلال أقل مستوى لإقبال السوق العامة على شركات توليد الكهرباء لأغراض تجارية- أي التي تبيع الكهرباء لسوق الجملة للطاقة. وحقق من استحوذوا عليها أرباحاً ضخمة في الفترة الحالية.
بلا شك تُعد الصفقة رهاناً على ارتفاع الطلب، إذ تقدم "كونستليشن"، ذات التقييم المرتفع بفضل أسطولها الكبير من المفاعلات النووية، 16% من أسهمها إضافة إلى مليارات الدولارات من السيولة النقدية لشراء محطات تعمل بالغاز بشكل رئيسي وفي ظل وعود قليلة نسبية بزيادة الكفاءة التشغيلية.
انطلق سباق لتوفير وامتلاك البنية التحتية ومعدات توليد الكهرباء من الغاز، فعلى سبيل المثال، قدمت "إكسون موبيل" عرضاً في الآونة الأخيرة لإنشاء وتشغيل محطات كهرباء تعمل بالغاز، لتستفيد من استياء مشغلي مراكز البيانات من طول الفترات اللازمة لتطوير المفاعلات النووية في توفير التمويل اللازم لتقنيات احتجاز الكربون التي تطورها شركة إنتاج النفط الكبرى.
أما بالنسبة إلى الصفقات الأصغر حجماً، فأعلنت "فورترس إنفستمنت غروب" (Fortress Investment Group) في وقت سابق من هذا الشهر استحواذها على توربينات غاز متنقلة بقدرة 850 ميجاوات بمقدورها توفير الكهرباء بالموقع لمشغلي مراكز البيانات الذين ينتظرون الربط بشبكة التوزيع أو يرغبون في مصدر طاقة احتياطي.
يتوافق ذلك مع تصريحات شركات تصنيع المعدات، فكشفت "جي إي فيرنوفا" للمحللين الشهر الماضي أنها تجري محادثات مباشرة مع مشغلي مراكز البيانات الذين يسعون إلى شراء توربينات الغاز، بدلاً من الاكتفاء بمطوري توليد الطاقة التقليديين. وفي الوقت نفسه، أشارت "كاتربيلر" إلى أن لديها طلبيات متراكمة لفترة ما بين 18 شهراً و24 شهراً لمجموعات المولدات بالمكابس، ويرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى طلب مراكز البيانات على مصادر احتياطية للكهرباء.

الاهتمام يمتد لخطوط أنابيب الغاز

يتسع ذلك الاهتمام ليشمل مشغلي خطوط أنابيب الغاز، فكشفت "إنيرجي ترانسفير" في المؤتمر الماضي للإعلان عن الأرباح أنها تلقت طلبات لربط ما يزيد على 40 مركز بيانات، ما قد يشير إلى طلب إضافي قد يصل إلى 10 مليارات قدم مكعب يومياً، ما يعادل أكثر من 10% من إجمالي الطلب على الغاز في الولايات المتحدة خلال الفترة الحالية، لكن تلبية هذه الزيادة الكبيرة في الطلب لن تحدث.
مع ذلك، وبأخذ ثقة هذا القطاع المتناهية بالنفس في الحسبان، فإن الوضع يتوافق مع السياق الأوسع نطاقاً، وتحقيق بعض من هذه الفرص سيشير للنمو. وأدلت "وليامز كوز" -منافسة "إنيرجي ترانسفير"- بتصريحات مشابهة، بل وناقشت التوسع في نشاط توليد الكهرباء بالموقع خلال المؤتمر الماضي للإعلان عن الأرباح.
وبالطبع، فإن عملية إعادة تقييم اتجاهات الكهرباء والغاز التي أدت إلى ارتفاع كبير في أسهم شركات توليد الكهرباء امتدت إلى قطاع خطوط الأنابيب أيضاً، لترتفع التقييمات إلى أعلى مستوى لها منذ أكثر من عقد.
يبدو أن هذا الطرف من سلسلة قيمة الغاز، المختص بنشاط التسويق والأكثر قرباً للمستهلكين الذين يعطون الأولوية القصوى للسرعة، هو القطاع الذي يمكن فيه تحقيق أكبر مكاسب، سواء كان عبر عقود الكهرباء أو معدات توليدها.

احتدام المنافسة بين الغاز ومصادر الطاقة الأخرى

يُفترض أن تحظى أسعار الغاز بدعم أيضاً في نهاية المطاف، لكن مع ملاحظة أن آبار النفط تمثل مصدراً لنحو 40% من إنتاج الغاز المحلي، ما يؤدي إلى عدم ارتباط جزء كبير من الإمدادات بأسعار الغاز، وهي سمة مهمة عرقلت الارتفاعات السابقة في ظل تحرك الأسعار بسوق النفط في اتجاه مختلف.
فضلاً عن ذلك، فرغم التوقعات المتفائلة لأسعار الغاز، لا تزال المنافسة طويلة الأجل على الحصة السوقية في قطاع الكهرباء محتدمة مع مصادر الطاقة المتجددة والبطاريات (إضافة إلى المفاعلات النووية الجديدة إذا ظهرت في نهاية المطاف).
رغم تعزيز قدرات إنتاج الكهرباء بالغاز في الفترة الحالية، قد لا تستهلك بالضرورة القدر ذاته من الوقود بعد عقد، لكن لا يزال ينبغي شراؤها ودفع تكاليفها كما نرى حالياً.

خاص بـ "بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي