مركز اقتصاديات الأمن السيبراني .. حماية مليارات العالم تبدأ من الرياض
أثناء عمله في إحدى الشركات العقارية بوسط لندن استقبل توماس ميشيل رسالة عبر بريده الإلكتروني كان فحواها "اضغط على هذا الرابط" وبحسن نية استجاب الرجل ليتفاجأ بأنه تعرض إلى عملية قرصنة أفقدته جزءا كبيرا من أمواله بعد أن تمكن القراصنة من اختراق معظم حساباته بما فيها الحسابات المصرفية.
ميشيل لم يكن الضحية الوحيدة بعد أن كشفت شركة هاودن العالمية للتأمين أن 20% من موظفي الشركات البريطانية تعرضوا لهجمات سيبرانية بنفس الطريقة تقريبًا، ما أسفر في النهاية عن خسائر بلغت 55 مليار دولار خلال الفترة من (2019-2024).
خسائر موظفي بريطانيا هي جزء بسيط من فاتورة أكبر يدفعها العالم يوميًا بسبب الهجمات السيبرانية التي ارتفعت نسبتها خلال السنوات القليلة الماضية، ويتعرض لها المواطنين في مختلف القطاعات خاصة القطاع المصرفي الذي يتصدر قائمة الحوادث.
ويوضح البنك الدولي في تقريره عام 2024 أن 95 % من الجرائم السيبرانية تعتمد على خطأ بشري و5 % تقع نتيجة اختراق بيانات عن بعد، أما التكلفة الكلية للخسائر فقد تصل إلى 9.5 تريليون دولار خلال العام الجاري.
هذه الأرقام كانت على طاولة وفود مؤتمر دافوس العالمي خلال الأيام الماضية وبعد مباحثات كثيفة أعلن المؤتمر بالشراكة مع مؤسسة المنتدى الدولي للأمن السيبراني إطلاق مركز الاقتصاديات السيبرانية في الرياض، لتستضيف السعودية اجتماعًا دوليًا دوريًا.
أما مهمة المركز الأساسية فستكون توفير أدوات معرفية ودراسات معمقة تمكن صناع القرار من مواجهة التحديات السيبرانية ومخاطرها التي باتت تشكل تهديدا مباشرا للاقتصادات الدولية.
تنقسم الاقتصاديات السيبرانية وفقًا لـ"دافوس" إلى قسمين أولهما قيمة الخسائر التي تتكفلها كل دولة جراء الجرائم السيبرانية سواء التي تستهدف تخريب بنية تحتية أو أنظمة اتصالية أو ما يفقده المواطنون من أموال، والقسم الثاني هو استثمارات الأمن السيبراني ومدى وجود بنية تحتية وتشريعية تستهدف المستثمرين للدخول في هذا القطاع الحيوي الذي تبلغ قيمة سوقه 193 مليار دولار ومن المتوقع وصوله إلى 562 مليار دولار في 2032.
ومن المتوقع أن تقود الرياض الجهود العالمية لمواجهة تلك التحديات، إذ يشكل المركز الجديد منصة تجمع بين الحكومات والشركات الكبرى والأكاديميين لتطوير سياسات فعالة تعزز من ناحية حماية الاقتصاد العالمي، وتفتح من ناحية أخرى آفاق جديدة للاستثمارات وتمكين قادة المستقبل، إذ إن السعودية تملك التكنولوجيا والحوكمة والابتكار، وهي محاور ثلاث رئيسية سيمكنها من تأدية دورها.
تكمن الحقيقة في أن جهود السعودية في قطاع الأمن السيبراني واقتصادياته لم تبدأ الآن، بل في عام 2016 مع إطلاق رؤية 2030 التي استهدفت إعادة صياغة اقتصادها بما يجعله متنوعا ومستداما.
وكان قطاع الأمن السيبراني في طليعة الملفات التي عملت عليها السعودية، كونها أسست في أكتوبر 2017 الهيئة الوطنية للأمن السيبراني لتكون هيئة حكومية مختصة بهذا المجال ومهمتها زيادة عدد الكوادر الوطنية المؤهلة لتشغيله، كما أسست في نفس العام الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة والدرونز، وذلك لاتباع أفضل الممارسات والمعايير العالمية.
إضافة إلى ذلك أطلقت السعودية عدة مبادرات لتعزيز الوعي بالأمن السيبراني وإلقاء الضوء على الفرص الاستثمارية وكان أبرز مثال على ذلك المنتدى الدولي للأمن السيبراني الذي عقد لأول مرة في فبراير 2020 وحضره أكثر من ألف خبير ومختص في هذا المجال إلى جانب 100 شخصية من كبار المسؤولين في الشركات الكبرى داخل السعودية وخارجها، وفي نسخته الرابعة التي عقدت نوفمبر الماضي حضر المنتدى رؤساء وزراء، ووزراء، وكبار قيادات الشركات الكبرى من 120 دولة.
بالتوازي مع ذلك أطلق الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة والدرونز فعالية "بلاك هات" لأول مرة في الشرق الأوسط وإفريقيا عام 2022 وهي التقنية الأكبر على مستوى العالم، إذ ضمت مسابقات شبابية وحلقات نقاشية وعروضا لشركات كبرى من أجل تبني المشروعات الجديدة، وشارك في تلك النسخة وفود من 35 دولة، وفي النسخة الثالثة التي عقدت نوفمبر الماضي وصلت عدد الجهات المشاركة 450 جهة، ما يعني نسبة نمو تخطت الـ100%.
تلك المسيرة أسفرت في النهاية أن يصل سوق الأمن السيبراني في السعودية إلى 13.3 مليار ريال تمثل مجموع إنفاق الجهات العاملة في القطاعين العام والخاص، ومن المتوقع أن تشهد هذه السوق نموا سنويا مركبا قدره 13.78 % حتى عام 2029، كما ستتجاوز قيمته 10 مليار دولار بحلول 2032.
أما في مجال التنافسية العالمي فقد صنفت الأمم المتحدة السعودية ضمن الفئة الأعلى في الأمن السيبراني واعتبرت المملكة "نموذج رائد" عالميًا في 2024، وذلك بعد تقرير شمل دراسة الأمن السيبراني في أكثر من 190 دولة.
كل تلك التصنيفات كانت أمام شركات التقنية العملاقة التي سرعان ما نقلت مقراتها إلى الرياض من أجل البحث عن فرصة استثمارية كبرى في ظل ما وفرته السعودية من بنية رقمية وسيبرانية قوية وبيئة تشريعية تدعم الأمن السيبراني وتقلل من فاتورة خسائره، وكانت البداية مع شركات أمازون وألفابيت ثم ميكروسوفت وأوراكل وفايزر الدوائية. وتستعد شركات أخرى إلى اتخاذ نفس الخطوة خلال العام الجاري.
والآن ومع إطلاق مركز الاقتصاديات السيبرانية تخطو السعودية خطوة جديدة نحو الريادة العالمية، إذ باتت تحمل قيادة الجهود الدولية لمواجهة تحديات الاقتصاد السيبراني، وأوضحت مسؤولة عن تقليل تكلفة خسائره، وهذا ما أوضحه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في أكتوبر الماضي حين قال خلال المنتدى الدولي للأمن السيبراني: "ولما للفضاء السيبراني اليوم من ارتباط وثيق بنمو الاقتصادات وازدهار المجتمعات، وبأمن الأفراد واستقرار الدول، وما يتسم به من طبيعة متجاوزة في تأثيرها للحدود، تتعاظم أهمية توحيد الجهود الدولية ومواءمتها لاغتنام الفرص ومواجهة التحديات في الفضاء السيبراني عبر الاستثمار في الإنسان".