أندريا كلوث: ترمب يبدو عازماً على تقويض التعددية
بازدرائه الأمم المتحدة والدول الصغيرة، يوحي ترمب أنه سيسعد بسقوط النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية
ترمب يبدو راغباً بتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ لأقوى دوله على حساب البلدان الأصغر.
انسحاب الولايات المتحدة من مؤسسات الأمم المتحدة يهدد الكوكب مناخياً وسكانه صحياً.
شاءت الصدف أن تصبح الدنمارك وبنما في هذا التوقيت بين الدول الأعضاء العشرة غير الدائمين في مجلس الأمن الدولي المناط به حفظ السلام العالمي. ستتولى الدنمارك رئاسة هذا المجلس في مارس وفي جعبتها جدول أعمال طموح يركز على "الدفاع عن القانون الدولي" وغيره من القضايا السامية، بينما ستتولى بنما الرئاسة الدورية للمجلس في أغسطس. فما السوء الذي قد يقع؟ دعني أعدد لك ما قد يحدث. سيجلس الدنماركيون والبنميون وغيرهم من الدبلوماسيين إلى جانب إليز ستيفانيك، المتحدثة باسم حركة "لنعد لأمريكا عظمتها" التي عيّنها الرئيس دونالد ترمب سفيرةً لدى الأمم المتحدة لبلاده، وهي واحدة من 5 دول دائمة العضوية في المجلس وتملك حق النقض (فيتو). وكما هو متوقع منها، وعدت خلال جلسة تعيينها، بتبني نهج يضع "أمريكا أولاً"، مشيرة إلى أنها تنظر إلى الأمم المتحدة على أنها مستنقع معاد للسامية يبدد أموال دافعي الضرائب الأمريكيين.
ازدراء النظام الدولي
ستكون لدى الدنمارك وبنما أسئلة كثيرة تطرحها على ستيفانيك، خاصة في ما يتعلق بطموحات ترمب العلنية بشراء غرينلاند من الدنماركيين أو الاستيلاء عليها، و"استرجاع" القناة التي بنتها أمريكا في بنما. وإذا ما صعّد ترمب من أفعاله لتماشي تصريحاته، سيكون كل من الأمرين انتهاكاً صارخاً واستهزاءً بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وكل ما يمثله مجلس الأمن.
لكن ازدراء ترمب لهذه المفاهيم ليس جديداً. فخلال ولايته الأولى، هزأ بمن سماهم "العولميين" في الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الدولية متعددة الأطراف التي تعمل على إدارة النزاعات وتعزيز التعاون الدولي. ويبدو اليوم عازماً خلال ولايته الثانية على تدمير النظام الذي أرساه الرئيس هاري ترومان، وحافظ عليه كل من خلفه من رؤساء الولايات المتحدة.
ما كادت تمر بضع ساعات على أداء ترمب اليمين الدستورية حتى بدأ يستعرض نفوذه، فأصدر أوامر بالانسحاب من اثنتين من ركائز منظومة الأمم المتحدة: منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ. صحيح أن العيوب تعتريهما، وهما بحاجة ماسة إلى إصلاح، لكن بدل السعي إلى تحسينهما، يعمل ترمب على تهميشهما أو حتى تقويضهما.
حتى بمنطق "أمريكا أولاً"، ستكون لمثل هذه الخطوات ارتدادات عكسية كارثية. فبينما تنسحب الولايات المتحدة، تتقدم الصين، مصورة نفسها لدول الجنوب العالمي كراعٍ أكثر موثوقية للنظام الدولي. (أعلن مايكل بلومبرغ، مالك شركة "بلومبرغ" أن مؤسسته الخيرية ستسد الفجوة التمويلية التي خلّفها الانسحاب الأمريكي من اتفاقية المناخ). أمّا ما يروّج له ترمب وستيفانيك على أنه "قوة"، فلا يعدو كونه امتعاضاً من طرف واحد، وتخلياً عن القيادة.
ارتدادات عالمية
هذه المقاطعة التي يلوّح بها ترمب، التي ستمتد على الأرجح إلى وكالات أخرى في الأمم المتحدة، تدل على قصر نظر فادح. لا تعترف الفيروسات والاحترار العالمي بحدود، فهما مشكلتان عالميتان تتطلبان استجابات منسّقة متعددة الأطراف من جميع الدول، وهذا بالذات نوع التحديات التي نشأت الأمم المتحدة لمواجهته.
بإضعاف منظمة الصحة العالمية، يُقوّض ترمب قدرتها على تتبع انتشار الأمراض حيوانية المنشأ عبر المناطق والأنواع، فيما يتجدد القلق من إنفلونزا الطيور، ويضعف قدرتها على إصدار تحذيرات مبكرة بشأن الجائحة التالية. أما بإضعافه اتفاقيات المناخ، فإن الولايات المتحدة، ثاني أكبر مصدر لانبعاثات الكربون عالمياً، تتنصل فعلياً من مسؤوليتها تجاه الجهد الجماعي للحفاظ على كوكب صالح للحياة. الجمهوريون في الكونغرس، الذين تحولوا اليوم إلى نادٍ لمؤيدي تيار "لنعد لأمريكا عظمتها"، يسيرون على إيقاع موحّد وراء ترمب.
خلال طرحه أسئلةً على ستيفانيك في جلسة تعيينها، لم يستر رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ جيمس ريش ازدراءه للأمم المتحدة، واقترح أن تعمل على "تقليص عدد من يعرقلون الحركة في شوارع نيويورك" حول مقرّها. أما بريان ماست، رئيس اللجنة الرديفة في مجلس النواب، فيتباهى بسعيه لفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، التي يصفها بأنها مجرد محكمة صورية.
ازدواجية التعامل مع القانون الدولي
المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ليست جزءاً من منظومة الأمم المتحدة لكنها قريبة منها. وكانت نتاج جهود قادتها الولايات المتحدة في تسعينيات القرن الماضي لإنشاء هيئة لمحاكمة مرتكبي الفظائع وجرائم الحرب، عندما تعجز الأنظمة القضائية الوطنية عن محاسبتهم أو تمتنع عن ذلك. لكن ما أن باشرت المحكمة عملها في 2002، حتى أدارت واشنطن ظهرها لها.
حين يفتح قضاة المحكمة تحقيقات تطال خصوم الولايات المتحدة، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تبدي واشنطن تعاوناً. أما عندما تستهدف أمريكيين أو حلفاء لواشنطن، كما في حالة المسؤولين الإسرائيليين بشأن ممارساتهم في قطاع غزة، تتنكر لها.
تعود هذه الازدواجية في تعامل الولايات المتحدة مع القانون الدولي إلى أكثر من قرن. بعد الخراب الذي خلفته الحرب العالمية الأولى، راود الرئيس وودرو ويلسون حلم تأسيس عصبة الأمم بهدف منع وإنهاء الحروب حول العالم.
لكن مجلس الشيوخ أخفق في التصديق على مشروع ويلسون، وفي غياب الدعم الأمريكي، سقطت عصبة الأمم في ظل الاجتياح الياباني والإيطالي والألماني لدول مستقلة في ثلاثينيات القرن الماضي.
حاولت الولايات المتحدة إحياء هذا المشروع على ركام الحرب العالمية الثانية، فدعت 51 دولة إلى سان فرانسيسكو وواشنطن لإقامة منظمة جديدة ومحسّنة. وهكذا نشأت الأمم المتحدة.
الدول الصغرى الخاسر الأكبر
تمزج الأمم المتحدة بطبيعتها، ومعها العناصر الأخرى التي باتت تشكل النظام الدولي الليبرالي أو "القائم على القوانين"، بين واقعية تمثلها القوة والعقلانية التي تجسدها القوانين والأعراف.
في العالم الحر، كان يُنظر إلى الولايات المتحدة كراعية لهذا النظام بصفتها قوة مهيمنة خيّرة (إجمالاً). وعلى الصعيد العالمي، كان يُفترض بالقوى العظمى الممثلة في مجلس الأمن منع وقوع حروب كبرى. لم يكن هذا التصور ساذجاً، إذا غالباً ما يُقال إن الأمم المتحدة لم تنشأ لتقودنا إلى الجنة، بل لتجنيبنا الجحيم.
اليوم، يبدو أن الاتجاه إلى الجحيم احتمال قائم في ظل السلوكيات المتهورة لثلاث من الدول دائمة العضوية. تحولت روسيا تحت حكم الرئيس فلاديمير بوتين إلى أسوأ عدو للنظام، بسعيها لمحو أوكرانيا عن الخريطة ضاربة بميثاق الأمم المتحدة عرض الحائط. وتكاد الصين تحت قيادة الرئيس شي جين بينغ تضاهيها، مع تنمرها على دول في بحر الصين الجنوبي وفي مناطق أخرى.
اليوم، تحيد الولايات المتحدة بدورها عن السكة تحت قيادة ترمب، ما يثير شكوكاً حول مكانتها كراعٍ لهذا النظام الدولي وآخر خط دفاع عنه.
إن كل تصريحات ترمب وأعماله تدل على عدم اكتراثه بالنظام الدولي أو مبادئه، بل حتى يتفق مع بوتين وشي أن القوة تجعلك محقاً، أو كما تخيّل ثوسيديدس قول الأثينيين لأهل ميلوس البائسين قبل إخضاعهم: "القويّ يفعل ما يستطيع، والضعيف يتحمل ما يُفرض عليه".
من خلال تخويف الدنماركيين والبنميين، ومواقفه المتذبذبة حيال أوكرانيا وما سواها، يبعث ترمب برسالة مفادها أنه يرغب في تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ، ليأخذ العالم الغربي طبعاً، ولا يبالي بما يحدث من عدوان وظلم، ما يترك الأمريكيين في مواجهة مخاطر أعظم.
لكن الخاسر الأكبر في مثل هذا النظام العالمي، ليس أمريكا أو الصين، بل الناس في الدول الفقيرة الذين سيموتون من أمراض كان يمكن احتواؤها مبكراً، أو الدول الصغرى العالقة بين فكي قوى عظمى.
أهل ميلوس هذا العصر قد يكونون سكان غرينلاند أو مولدوفا أو تايوان. على ممثل كوبنهاغن أن يطرح ذلك في مجلس الأمن في مارس، وعلى ممثل بنما أن يطرحه مجدداً في أغسطس، أرغب بسماع رد ستيفانيك على ذلك، وبلا شك رد ترمب.
خاص بـ"بلومبرغ"