لماذا يستمر الذهب في تحطيم الأرقام القياسية؟
عرف الذهب منذ القدم على أنه الملاذ الآمن الأول ضد التقلبات الاقتصادية والجيوسياسية. فبجانب استخدامه لأغراض الزينة، إلا أن واحدًا من أهم أهداف اقتناء الذهب يتمثل في الحفاظ على المدخرات من التآكل بسبب التضخم. وخلال الأعوام الأخيرة اجتمعت جميع العوامل التي تعزز من الطلب على المعدن النفيس، بداية من جائحة كورونا وما تبعها من ركود اقتصاد ناتج عن عمليات الإغلاق، وصولًا إلى الأزمة الروسية الأوكرانية وما خلقته من تضخم جامح طال العالم بأسره، وصولًا إلى الحرب في الشرق الأوسط وتهديدها المباشر للتجارة العالمية، ونهاية بالنزاعات التجارية التي تأخذ منحنيات أكثر تعقيدًا.
خلال 2024 شهدت أسعار الذهب ارتفاعًا بنسبة وصلت إلى 25.5% محققًا أفضل أداء خلال 14 عامًا. ليحقق بذلك عائد تفوق على الأسهم في الولايات المتحدة والأسواق الناشئة، إضافة إلى السندات. الارتفاع في الأسعار جاء مدعومًا بشكل أساسي بنمو الطلب العالمي على الذهب الذي ارتفع خلال 2024 بنسبة 1%.
ومع بداية 2025 استمر الذهب في الوصول إلى مستويات قياسية. حيث ارتفعت العقود الآجلة للمعدن النفيس في الفترة من (1 يناير إلى 9 فبراير) بنسبة تصل إلى 10%. ليتجاوز مستوى 2900 دولار للأونصة.
صعود الأسعار القوي مع بداية العام تدعمه عدة عوامل، في مقدمتها ارتفاع حدة المخاطر الجيوسياسية. حيث يؤدي استمرار الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وبين روسيا وأوكرانيا إلى ارتفاع الطلب على سيد الملاذات الآمنة. فالخوف من تصاعد النزاعات وتأثيرها المباشر في استقرار الاقتصاد العالمي وبالأخص في أسواق الأسهم تدفع الأفراد والمستثمرين للجوء إلى الذهب كبديل آمن للاستثمار وحفظ المدخرات.
المخاطر التجارية الناتجة عن اتجاه الدول لفرض تعريفات ورسوم جمركية على السلع واحدة من أهم العوامل لارتفاع الطلب على الذهب. ففي حالة استمرار النهج الحالي فأن التوقعات تبدو متشائمة بالنسبة للتجارة العالمية. حيث ستسود حالة من الحمائية، وسيكون لذلك أثار كارثية في الاقتصاد. من التضخم الذي سيشهد ارتفاع نتيجة ارتفاع تكلفة السلع والخدمات بعد إضافة الرسوم الجمركية، وصولًا إلى مستويات الإنتاج التي ستتأثر بالسلب نتيجة انخفاض الطلب الخارجي.
البنوك المركزية أدت دورا مهما في تعزيز الطلب على الذهب. حيث تجاوزت مشتريات البنوك المركزية العالمية من الذهب خلال 2024 حاجز ألف طن وذلك للعام الثالث على التوالي، وقد تصدرت الأسواق الناشئة قائمة المشترين وعلى رأسهم بولندا وتركيا والصين والهند.
اتجاه الحكومات ممثلة في البنوك المركزية لتعزيز مشتريات الذهب نابع من عدة أسباب أهمها الرغبة في تشكيل الذهب للجزء الأهم من الاحتياطيات الأجنبية ليكون بمثابة حائط الصد في مواجهة الصدمات التي تؤثر في التضخم والعملات المحلية. إضافة إلى رغبة عديد من دول العالم وبالأخص في الجزء الجنوبي لتجنب التهديدات المستقبلية عن استخدام العملات الرئيسية كأداة للعقوبات أو القيود على الاقتصادات الداخلية. ولذلك تسعى لاستبدال جزء مهم من احتياطاتها من تلك العملات بالذهب.
توقعات العام الحالي بالنسبة للذهب تبدو أكثر تفاؤلا. في حال استمرت التوترات الجيوسياسية في الارتفاع. التطورات أيضا بالنسبة للنزاعات التجارية في طريقها لتأخذ منحنى تصاعدي في ظل الدعوات من الدول المستهدفة بالرسوم الجمركية للرد بالمثل.
طلب البنوك المركزية من المتوقع أن يستمر في الارتفاع خلال العام الحالي وبالأخص من الأسواق الناشئة. وذلك في ظل ارتفاع حدة الخلافات مع القوى الاقتصادية الكبرى في العالم وعدم اقتصارها على جبهات الاقتصاد والتجارة فقط.
ختامًا فإن الذهب في طريقه خلال العام الحالي لكسر مستويات قياسية جديدة. سيكون ذلك بمنزلة الخبر الجيد لحائزي المعدن النفيس من الأفراد والمستثمرين. ولكن في طياته فإنه قد يكون مؤشر على الأزمات والمشاكل التي باتت تهدد استقرار الاقتصاد العالمي سواء كانت جيوسياسية أو اقتصادية أو تجارية.