كيف تحول دعم وادي السيليكون من أوباما إلى ترمب؟
ربما تبدو ولاية دونالد ترمب الثانية مألوفة في أعين من ينظرون إليها من بعيد، إذ أن الفوضى والاضطرابات والتصريحات التهويلية والالتفافات الحادة في السياسات والتغيرات المتسارعة، كلها سمات من قديم الرئيس الذي عاد إلى البيت الأبيض.
لكن الفارق هذه المرة يكمن في القوة المحركة للمشهد. في ولاية ترمب الأولى، هيمن التيار الشعبوي الصاخب المؤيد لحركة "لنعد لأميركا عظمتها". أما اليوم، فيبرز مركز قوة منافس بقيادة إيلون ماسك، يضم أقطاب التقنية في وادي السيليكون وأنصار العملات المشفرة، ومعظمهم وافدون جدد إلى واشنطن يتطلعون إلى انطلاقة سريعة وتحطيم القواعد.
تراجع نفوذ مؤيدي ترمب الأصليين
حرص أساطين القطاع، من جيف بيزوس وتيم كوك إلى سوندار بيتشاي ومارك زوكربيرغ، على تقديم فروض الاحترام لترمب بحضورهم حفل تنصيبه، لامتصاص حنقه ولو لفترة.
وقد نفرت وزارة الكفاءة الحكومية التي يرأسها ماسك تفرض وجودها في شتى أركان واشنطن. كما عين ترمب ديفيد ساكس، المدير التنفيذي السابق في" باي بال" والمقرّب من ماسك، قيصراً للذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة في البيت الأبيض. وسمّى مناصر الكريبتو - عملة رقمية - بول أتكينز رئيساً لهيئة الأوراق المالية والبورصات مكان قيّمها في عهد جو بايدن، غاري غينسلر، وهو خصم لدود لدعاة العملات الرقمية.
الديمقراطيون ممتعضون، لكنهم مغلوبون على أمرهم. أمّا بعض مؤيدي ترمب فبدأوا يدركون أنهم ليسوا أفضل حالاً. كلما خاض قادة مخضرمون من تيار "لنعد لأميركا عظمتها"، مثل ستيف بانون، في مواجهة مع ماسك وأقطاب التقنية، خرجوا خائبين. رغم أن الرجلين يتشاركان بعض الأهداف السياسية والحماسة للتدمير، شنّ بانون حرباً على ماسك خلال الفترة الانتقالية، بهدف إحباط سعي مؤسس شركتي "تسلا" و"سبيس إكس" لزيادة أعداد المهاجرين ذوي المهارات العالية المتوافدين إلى الولايات المتحدة عبر برنامج تأشيرات (H1-B).
وقد تعهد بانون في بداية يناير بأن يدفع ماسك "لأن يغادر بحلول يوم التنصيب"، مؤكداً أنه "لن يحصل على صلاحيات مطلقة في البيت الأبيض، وسيكون مثل أي شخص آخر". لكنه سعيه خاب في كل ذلك.
لم يقتصر دعم ترمب على إطلاق يد ماسك في هجومه على الهيكلية الحكومية، فقد أشاد به قائلاً إنه "رجل موهوب جداً في مجال الإدارة والميزانية"، بل راح يردد أيضاً خطاب قطاع التقنية الذي يؤكد على أهمية التمسك بالمهاجرين المتعلمين ليبقوا في الولايات المتحدة. وقال الرئيس في مقابلة عبر بودكاست (All-In) ذي الشعبية الواسعة في عالم التقنية: "أعتقد أنك إن تخرجت من الجامعة، يجب أن تحصل تلقائياً على الإقامة الدائمة مع شهادتك لتتمكن من البقاء في البلاد"
وادي السيليكون يغزو واشنطن
ستلاحظ النفوذ المستجد لقطاع التقنية أينما توجهت في واشنطن بعهد ترمب. فقد أقيلت رئيسة لجنة التجارة الفيدرالية لينا خان، وما تزال قضايا مكافحة الاحتكار التي رفعتها ضد "أمازون" و"أبل" و"جوجل" و"ميتا " معلقة. وقريباً، قد تُجبر مالكة "تيك توك" على بيع المنصة إلى طرف أميركي. أما "بالانتير تكنولوجيز" (Palantir Technologies) لبيتر ثيل و"أندوريل إندوستريز" (Anduril Industries) لبالمر لاكي، فهما في طريقهما للفوز بعقود حكومية مربحة، رغم أن شركات ماسك ستطغى على الجميع بلا شك.
وفي مجال العملات المشفرة، لم يكتف ترمب بالتراجع عن سياسات سلفه جو بايدن المتحفظة، بل أصدر عملة ميم خاصة به ($Trump) وطرح فكرة إنشاء احتياطي وطني لبتكوين.
في الماضي، كان انتخاب رئيس جمهوري يعني أن تعج واشنطن بشباب ممن يؤمنون بالعقيدة المحافظة يرتدون بزات رسمية وهم متحفزون لإحداث ثورة. أما اليوم، فهي تعج برواد التقنية من وادي السيليكون ومبرمجين لم يتجاوزوا سن المراهقة يعملون على تفكيك شبكات الكمبيوتر الحكومية.
لا عجب في ذلك، فقد كان إيلون ماسك المتبرع الأكبر في انتخابات 2024، إذ إنه أنفق أكثر من 250 مليون دولار لدعم ترمب ومرشحين جمهوريين آخرين، بينما تبرع قطاع العملات المشفرة بما لا يقل عن 133 مليون دولار، ذهب معظمها لدعم المرشحين الجمهوريين.
إن غزو وادي السيليكون لواشنطن هو ثمرة سنوات من الجهد لكسب النفوذ في الإدارة الأميركية، لكنه لم يحدث بالطريقة التي كان كثير من القياديين الأوائل يتخيلونها أو يمنّون أنفسهم بها.
دعم انتخاب أوباما
بدأ صعود وادي السيليكون كقوة سياسية في منتصف العقد الأول من الألفية، في ظل سخط من الحرب على العراق، وتزامن ذلك مع تعديل قوانين تمويل الحملات الانتخابية، ما جعل قطاع التقنية لاعباً رئيسياً لصالح الديمقراطيين.
معارضة الحرب وإدارة بوش حولت عديداً من نخب في قطاع التقنية من داعمين عاديين للحزب الديمقراطي إلى ناشطين ملتزمين ومتبرعين لصالح الحزب. في الوقت ذاته، كانت وسائل التواصل الاجتماعي تفتح الأبواب أمام جمع التبرعات عبر الإنترنت، وكان قانون ماكين-فاينغولد يقيد التبرعات السياسية الكبرى.
في 2008، اعتقد الحزب الديمقراطي أن هيلاري كلينتون ستفوز بالرئاسة. لكن أقطاب وادي السيليكون كانوا في ذلك الوقت يكادون يقدسون باراك أوباما. حين زرت الوادي ذلك الربيع، لم يكن أحد يتخوف من افتقار أوباما للخبرة، بل شبهوه بشركة إنترنت ناشئة واعدة. إذ اعتقدوا أنه يجذب اهتماماً كبيراً ويقدّم عرضاً مقنعاً، وما كان ينقصه إلا المال حتى يلمع نجمه.
قال لي أحد المستثمرين الرأسماليين الكبار الداعمين لأوباما في حينها "نحن نعرف على ماذا تُبنى الشركات العظيمة... على الأفكار والموهبة والقيادة الملهمة". في ذلك العام، جمع وادي السيليكون أموالاً لصالح الديمقراطيين أكثر ممّا جمعته هوليوود لهم، ما ساعد أوباما على هزيمة كلينتون في الانتخابات التمهيدية وصولاً إلى البيت الأبيض.
عمّ جوٌّ مؤيد لقطاع التقنية في الإدارة الجديدة، فقد تعهد أوباما بالتزام الشفافية في البيانات الحكومية، وعيّن مسؤولاً عن قطاع التقنية في البيت الأبيض، وخصص جزءاً كبيراً من حزمة تحفيز قدرها 787 مليار دولار للاقتصاد الأميركي بعد الأزمة الاقتصادية العالمية لصالح شركات التقنية النظيفة التي يقودها رواد أعمال مثل إيلون ماسك، الذي أنقذ "تسلا" بفضل قرض بقيمة 465 مليون دولار من وزارة الطاقة في عهد أوباما. لكن أكثر ما أراده قطاع التقنية كان الحرية ليبتكر كما يشاء، وقد حصل على قدر كبير من ذلك.
نهاية شهر العسل مع الديمقراطيين
إلا أن فوز ترمب على كلينتون في الانتخابات الرئاسية في 2016 أنهى شهر العسل بين وادي السيليكون والحزب الديمقراطي. فبدل أن يقرّ الديمقراطيون بتقصير كلينتون وتراجع جاذبية حزبهم، وجّه كثير من الساسة الديمقراطيين أصابع الاتهام إلى وادي السيليكون، ملقين باللوم على وسائل التواصل الاجتماعي والمعلومات المضللة وعمليات القرصنة الروسية.
استهدفت الانتقادات بعض الشركات بعينها، ومنها "فيسبوك" و"تويتر". فاستُدعي زوكربرغ وغيره من الرؤساء التنفيذيين في قطاع التقنية مرةً تلو أخرى للمثول أمام الكونغرس، وتعرضوا لهجوم شرس من ساسة ديمقراطيين غاضبين. قال شيرود براون، الذي كان عضواً في مجلس الشيوخ حينها، خلال جلسة استماع في 2019: "مثل طفل صغير يحمل علبة كبريت، أحرقت (فيسبوك) المنزل مرةً تلو أخرى".
في انتخابات 2016، لم يدعم إلا عدد قليل من أقطاب التقنية ترمب، باستثناء ثيل. لكن ولاية بايدن الرئاسية دفعت بالقطاع نحو اليمين بقدر أكبر. إذ إن الديمقراطيون القلقون حيال مسائل الخصوصية والقوة الاحتكارية وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على اليافعين أعادوا النظر بفوائد "الابتكار الثوري" وسعوا إلى تشديد القيود الناظمة.
امتدت هذه الحملة المتشددة لتطال العملات المشفرة التي حاول ساسة ديمقراطيون بارزون مثل غينسلر وإليزابيث وارن كبحها دون أن يحققا أي مكاسب سياسية تُذكر.
قال جاستن سلوتر، المسؤول السابق في هيئة الأوراق المالية والبورصات في عهد بايدن، الذي يشغل الآن منصب مدير السياسات في شركة الاستثمارات في العملات المشفرة "باراديغم" (Paradigm): "هناك على الأرجح دببة باندا في البرية أكثر من عدد الناخبين الذي يعتبرون مناهضة العملات المشفرة قضيتهم الأساسية".
سرعان ما تغيرت صورة الحزب في نظر العاملين في مجال التقنية، فبعد أن كان مدافعاً عن التقنية الجديدة، أصبح مشككاً فيها ومتشبثاً برأيه، ما دفع حتى ببعض المؤيدين الملتزمين بالحزب الديمقراطي إلى دعم ترمب.
نِك كارتر، الشريك في "كاسل آيلاند فنتشرز " (Castle Island Ventures) المتخصصة في العملات المشفرة، الذي كان سابقاً منظماً ميدانياً لحملة أوباما لكنه دعم ترمب العام الماضي، قال: "كنت تقدمياً يسارياً بامتياز، ولكن إذا كنت تعمل في مجال العملات المشفرة، يصعب ألا تدفعك سنوات بايدن إلى التطرف السياسي".
تأثير المال الانتخابي
أثار تركيز الحزب الديمقراطي على سياسات الهوية قلق بعض الرؤساء التنفيذيين في وادي السيليكون. تحدث المستثمر الرأسمالي المؤيد لترمب مارك آندرسن في مقابلة مع "نيويورك تايمز" عن الغضب الممزوج بالارتياب الذي شعر به عندما واجهه موظفوه بوابل من شعارات تيار "اليقظة الاجتماعية (ووك) مثل "جميعكم أشرار، البيض أشرار، كل الرجال أشرار، الرأسمالية شريرة، التقنية شريرة".
كما حصل خلال الصحوة السياسية السابقة لوادي السيليكون، جاء تأييد قطاع التقنية لترمب مدفوعاً بتعديل آخر في قوانين تمويل الحملات الانتخابية، وهو ما أدركه أقطاب التقنية، على رأسهم ماسك، وعرفوا كيف يستغلونه لصالحهم. في 2014، ألغت المحكمة العليا القيود على مجموع التبرعات للمرشحين ولجان الحزب، ومنح ذلك المتبرعين الأثرياء قدرةً أكبر على التأثير في الانتخابات. وبعد عشر سنوات، ألقى أغنى رجل في العالم بكل ثقله لدعم ترمب، مثبتاً كيف يمكن أن يشكل الدعم المالي عاملاً حاسماً في الانتخابات.
قاد هذا المزيج الجديد من المصلحة الذاتية والشفقة على الذات إلى ردة فعل سياسية أخرى، هذه المرة في الاتجاه المعاكس.
عبر أحد الرؤساء التنفيذيين الذين دعموا أوباما فيما مضى وقد طلب عدم كشف هويته خشية ردة فعل انتقامية من خصومه السياسيين عن أسفه للاتجاه السائد حالياً في وادي السيليكون. قال: "يميل الناس هنا إلى السير على خطى من يكنون لهم احتراماً... كان أبناء جيلي، وأعني جيل (جوجل) وستيف جوبز وإيريك شميدت وجيري يانغ وشيريل ساندبرغ جميعهم من الديمقراطيين، بالتالي كان كل الآخرين ديمقراطيين أيضاً. أما الجيل الجديد فهم من عصابة (باي بال) باستثناء ريد هوفمان، وجميعهم من اليمينيين. ولهذا السبب يحظى إيلون وثيل وساكس بتأثير كبير".
انقلاب على حقبة أوباما
في واشنطن، تلاشت الروحية الراديكالية المنفتحة التي حملها قطاع التقنية خلال حقبة أوباما. وقد أغلق فريق وزارة الكفاءة الحكومية الذي يقوده ماسك قواعد بيانات حكومية أو عطلها، وسعى إلى إلغاء وكالات بالكامل، مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
بدل تخصيص مزيد من الأموال للتقنية الخضراء كما فعل أوباما، يريد ترمب أن يقلل هذه الأموال، حيث تضمنت إجراءاته على سبيل المثال إلغاء الحسم الضريبي بقيمة 7500 دولار عند شراء مركبة كهربائية.
حتى أن افتخار قادة قطاع التقنية بدورهم في انتخاب أول رئيس أميركي من أصول أفريقية أصبح جزءاً من الماضي، فيما ينكب ماسك وآخرون على العمل من أجل إلغاء برامج التنوع والمساواة والشمول على امتداد القطاعات الحكومية.
رحب معظم أقطاب التقنية بعصر ترمب الجديد إما عبر الإشادة به أو تحيته بدافع القلق. قال مارك زوكربرغ في مكالمة حديثة لمناقشة أرباح شركة "ميتا": "لدينا الآن إدارة أميركية تفخر بشركاتنا الرائدة، وتضع تفوق التقنية الأميركية في مقدمة أولوياتها، وستدافع عن قيمنا ومصالحنا في الخارج". طبيعي أن يتبنى زوكربرغ مثل هذا الموقف الإيجابي نظراً إلى تهديدات ترمب السابقة له بسجنه مدى الحياة.
لكن المخلصين لحركة "لنعد لأميركا عظمتها" الذي تعهدوا على مدى سنوات بإقصاء وادي السيليكون وتدمير أمثال زوكربرغ وبيزوس وماسك، يستصعبون تقبل النفوذ المستجد لقطاع التقنية في عالم ترمب. مع ذلك، مصدر هذا النفوذ ليس بسرّ. فعلى حد قول بانون "كتابة شيك بـ250 مليون دولار يمنحك وزناً كبيراً".