مقاومة الإقطاع الرقمي

تأتي قمة عمل الذكاء الاصطناعي هذا الشهر في باريس عند منعطف حاسم في تطور الذكاء الاصطناعي. القضية المطروحة ليست ما إذا كانت أوروبا قادرة على منافسة الصين والولايات المتحدة في سباق التسلح بالذكاء الاصطناعي؛ بل ما إذا كان بوسع الأوروبيين أن يحملوا لواء ريادة نهج مختلف يضع القيمة العامة في صميم التطور التكنولوجي والحوكمة. تتمثل المهمة في الابتعاد عن الإقطاع الرقمي، وهو المصطلح الذي صغته شخصيا في عام 2019 لوصف نموذج المنصات الرقمية المهيمنة القائم على استخراج الريع.

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد قطاع آخر، بل هو تكنولوجيا ذات أغراض عامة ستشكل قطاعات الاقتصاد كافة. وهذا يعني أنه إما أن يوجد قيمة هائلة أو يتسبب في إحداث أضرار جسيمة. رغم أن كثيرين من المعلقين يتحدثون عن الذكاء الاصطناعي كما لو كان تكنولوجيا محايدة، فإن هذا يشكل استخفافا بقوته الاقتصادية الجوهرية. فحتى لو كان بناء الذكاء الاصطناعي مجانيا، فإنه يحتاج إلى من يُـشَـغِّـله وينشره، وهذا يتطلب الوصول إلى منصات الحوسبة السحابية التي تتحكم في الوصول.

هذه التبعية تجعل توجيه تطور التكنولوجيا نحو الصالح العام أشد إلحاحا من أي وقت مضى. السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان لزاما علينا تنظيم الذكاء الاصطناعي، بل كيف نُـشَـكِّـل أسواق إبداعات الذكاء الاصطناعي. بدلا من تنظيم هذا القطاع أو فرض ضرائب عليه بعد توظيفه بالفعل، يتعين علينا أن نعمل على إنشاء نظام بيئي غير مركزي يحكم الإبداع بما يخدم الصالح العام.

يُظهر تاريخ الإبداع التكنولوجي ماهية الرهان وحجمه. فكما زعمت في كتابي "دولة ريادة الأعمال"، جاءت تكنولوجيات عديدة من تلك التي نستخدمها كل يوم نتيجة للاستثمار العام الجماعي.

الواقع أن الشركات التي استفادت من هذه الاستثمارات العامة ــ بينما تتهرب في كثير من الأحيان من مساهماتها الضريبية ــ تستخدم الآن ريعها المفرط لاستنزاف المواهب من المؤسسات العامة ذاتها التي جعلت نجاحها في حكم الممكن. تتجسد هذه النزعة الطفيلية في أوضح صورها في "إدارة الكفاءة الحكومية" (DOGE) بقيادة إيلون ماسك، التي تدعو إلى قطع برامج التمويل الحكومي التي سمحت لشركة Tesla (تسلا) بالاستفادة من 4.9 مليار دولار من إعانات الدعم الحكومي.

هذا النقص في قدرة الدولة من شأنه أن يجعل تنظيم التكنولوجيات الجديدة بما يخدم المصلحة العامة أمرا متزايد الصعوبة. لقد استُـنزِفَت الدولة بالفعل من الخبرات، بسبب أجور القطاع الخاص الأعلى، فضلا عن عقود من الزمن من الاستعانة بمصادر خارجية للاستشارات الخاصة (وهو ما أطلقنا عليه أنا وروزي كولينجتون اسم "الخدعة الكبرى"). ماذا قد يحدث عندما تتركز معظم المعرفة التكنولوجية في 5 شركات خاصة فقط؟ بدلا من الانتظار لاكتشاف ذلك، يتعين علينا أن نتدخل الآن لتنظيم الذكاء الاصطناعي بطريقة ديناميكية وقابلة للتكيف، بينما لا تزال مجموعة تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي وآليات تسييل الخدمات المتنوعة في تطور.

ما يدعو إلى التفاؤل أن تطورات حديثة تشير إلى توافر مسارات بديلة. يبدو أن DeepSeek، شركة الذكاء الاصطناعي الصينية التي تسببت في تراجع عدد كبير من أسهم شركات التكنولوجيا الأمريكية لفترة وجيزة في أواخر يناير الماضي، أثبتت إمكانية تحقيق أداء مماثل بقدر أقل كثيرا من الطاقة الحاسوبية والطاقة الكهربائية. فهل من الممكن أن تساعد أساليب أكثر كفاءة في تطوير الذكاء الاصطناعي على كسر القبضة الخانقة التي فرضتها شركات الحوسبة السحابية الكبرى من خلال سيطرتها على موارد الحوسبة الهائلة؟.

في حين إنه من السابق للأوان أن نُـجـزِم بما إذا كان الإنجاز الخارق الذي حققته شركة DeepSeek ليؤدي إلى إعادة هيكلة السوق، فإنه يذكرنا بأن الإبداع على مستوى البرمجيات لا يزال في حكم الممكن وضروريا لمعالجة التأثير البيئي الذي يخلفه الذكاء الاصطناعي.

وكما زعمنا أنا وجابرييلا راموس من منظمة اليونسكو، من الممكن أن يعمل الذكاء الاصطناعي على تحسين حياتنا بطرق عديدة، من تحسين إنتاج الغذاء إلى تعزيز القدرة على الصمود في مواجهة الكوارث الطبيعية. يرى القادة الأوروبيون من ماريو دراجي إلى أورسولا فون دير لاين وكريستين لاجارد أن الذكاء الاصطناعي أمر بالغ الأهمية لإنعاش الإنتاجية الأوروبية.
لا يتعلق الأمر بالاختيار بين الإبداع والتنظيم، ولا يدور حول إدارة التطور التكنولوجي من الأعلى إلى الأسفل. بل يتعلق بصنع حوافز وشروط لتوجيه الأسواق نحو تحقيق النتائج التي نريدها كمجتمع. يتعين علينا أن نستعيد الذكاء الاصطناعي بحيث يعمل على تزويدنا بقيمة عامة، بدلا من أن يتحول إلى آلة أخرى لاستخراج الريع. وتقدم قمة باريس الفرصة لاستعراض هذه الرؤية البديلة.

خاص بـ "الاقتصادية"
Project Syndicate –2025

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي