أوروبا تواجه معضلة دفاعية تتطلب 3 تريليونات دولار

زمن ترمب يضع أوروبا بمواجهة سؤال: هل تزيد إنفاقها الدفاعي أم تواجه خطر تفكك الاتحاد؟

  • أوروبا اعتادت التعويل في الدفاع على واشنطن وتركيز إنفاقها على الرعاية الاجتماعية
  • يستخدم ترمب اليوم تفوّق الإنفاق العسكري الأمريكي كورقة ضغط في وجه أوروبا

"أن نكون أو لا نكون"، بهذا الاقتباس من مسرحية هاملت لخّص رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا بايرو المعضلة التي تواجهها أوروبا في ظلّ تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالانسحاب من الترتيبات الأمنية التي قادتها واشنطن في القارة على مرّ عدة عقود، فيما يضغط رئيس روسيا فلاديمير بوتين ليحقق مكاسبَ في محادثات لوقف إطلاق النار في أوكرانيا غُيبت عنها أوروبا.
في خضمّ ذلك كله، تتصاعد الهجمات الإلكترونية والتهديدات التي تستهدف البنية التحتية الحيوية، من إيطاليا حتى آيسلندا. يمكن أيضاً التعبير عن هذه المعضلة بطريقة أخرى: إما زيادة الإنفاق العسكري، أو أن يندثر اتحاد أوروبا ليكون أثراً بعد عين.

اعتماد مفرط على أمريكا

مثل شخصية مسرحية شكسبير، هاملت، اختارت أوروبا أن تركن إلى سكون التأسي ومناجاة النفس كما في الشعر على السعي الجاد لضمان مصالحها الأمنية. بينما تتوالى الاجتماعات على أعلى المستويات، بحثاً عن رد على ما يبدو وكأنه إعادة تموضع من جانب ترمب تجاه روسيا، لم تعد هناك منفعة من التمسك بوهم استمرار آلية "الحامي والمستجير"، رغم ما حققته من مكاسب في الماضي.
لقد غذت هذه الآلية وهم "السلام الدائم" على امتداد أراضي قارة عجوز تضع النفقات الاجتماعية في صدارة أولوياتها. وأفرزت أيضاً خطراً أخلاقياً، فبينما تنفق بولندا أكثر من 3% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، لا تتجاوز نسبة الإنفاق في إيرلندا 0.2%.
هذا الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة أتاح لواشنطن أن تستخدم دورها كأكبر قوة من حيث الإنفاق العسكري كهراوة في وجه الاتحاد الأوروبي. بلغ هذا النهج ذروته في عهد ترمب الذي طالب الأوروبيين بمعاودة مضاعفة التزاماتهم تجاه حلف شمال الأطلسي، بينما راح يخفف التزامات بلاده. وقد بلغ الأمر أن اتهم إيلون ماسك ونائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس الحكومات الأوروبية بأنها عدوّ من الداخل.
يرى مارك بييريني، الزميل الأول في مؤسسة "كارنيجي أوروبا"، أن هذا التحوّل يمثل لحظة فارقة في مستقبل الأمن الأوروبي، تضاهي في أهميتها سقوط جدار برلين عام 1989.

زيادة الإنفاق الدفاعي

بدل الانشغال بما إذا كان ترمب يناور بمهارة إستراتيجية أو يرتجل قراراته، تبقى الورقة الرابحة لأوروبا اليوم هي زيادة الإنفاق الدفاعي، وهي الطريقة الأفضل لتقاسم مزيد من عبء الولايات المتحدة ولتعزيز قدرتها على ردع التهديدات الروسية، وتحفيز النمو الاقتصادي في آن معاً.
يبدو أن تخصيص 4% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع هو الخيار الأمثل، باعتبار أن 3% لا يكفي و5% يفوق اللازم. تظهر تقديرات بلومبرغ إيكونوميكس أن ذلك يستلزم أن تنفق الدول الأوروبية الخمس الكبرى في حلف شمال الأطلسي 2.7 تريليون دولار إضافية خلال العقد المقبل، وعلى رأسها ألمانيا المعروفة بتشددها حيال الديون.
لا شك أن المهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، إذ تتطلب إنفاق 270 مليار دولار إضافية سنوياً. يمكن توزيع هذا العبء عبر جهود أوروبية مشتركة قد تغطي نصف المبلغ، أي ما يعادل 1% من الناتج الإجمالي الأوروبي والباقي تغطيه الميزانيات الوطنية. قال جونرام وولف، الزميل الأول في المؤسسة البحثية "بروجيل" (Bruegel): إن "التأمين الجماعي أرخص من التأمين الفردي"، في إشارة إلى أن الديون المشتركة والمشتريات الجماعية للذخيرة والطائرات المسيّرة أقل تكلفة وتأثِّر إيجابياً في الاقتصاد.
لقد بدأت بعض هذه الدول بزيادة إنفاقها الدفاعي، مثل الدنمارك موطن مسرحية هاملت، إذ يقترب الإنفاق هذا العام من 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي. حتى دون خوض تحولات جذرية، كتبني اقتراح ماريو دراجي بإصدار سندات يورو، تبقى لدى بروكسل خيارات متعددة لتحقيق هذه الأهداف.

تغيير في أسلوب الحياة الأوروبي

لكن كيف يجب إنفاق هذا المبلغ؟ تقاسم المزيد من العبء مع الأمريكيين يتطلب استثماراً أوروبياً مشتركاً في القدرات التي تفتقر إليها القارة، وفقاً للمؤسسة البحثية (EUISS)، ويشمل ذلك الاستخبارات العملياتية وأنظمة الدفاع الجوي والجسور الجوية وإعادة التزود بالوقود.
إن الإنتاج الضخم للذخيرة والطائرات المسيّرة لا يساعد فقط على منافسة القدرات العسكرية الروسية، بل يسهم أيضاً في دعم الشركات الناشئة في قطاع الدفاع، مثل شركة "هيلسينج" (Helsing) المتخصصة في الذكاء الاصطناعي.
أما توسيع الطلبيات المشتركة وتوحيد معايير المعدات، مثل الدبابات، فسيخفف تشرذم الأسواق الدفاعية الأوروبية، ويتماشى مع دعوة شركات مثل "إيرباص" و"راينميتال" (Rheinmetall) لمزيد من الدمج.
ولكن كما الحال دائماً، التحدي الحقيقي ليس مالياً بقدر ما هو سياسي. فهذه مسائل تمسّ صميم المصلحة الوطنية وما يُعرف بـ"أسلوب الحياة" الأوروبي الذي يقدم الإنفاق الاجتماعي على الإنفاق العسكري. لا يمكن لأي تخطيط تكنوقراطي أن يلغي الحاجة إلى اتخاذ قرارات صعبة. ولا شكّ أن بايرو يدرك جيداً الرابط بين المتطلبات الدفاعية وتوقع أن يصل العجز في نظام الرواتب التقاعدية إلى 15 مليار يورو (15.7 مليار دولار) سنوياً بحلول 2035.
اليوم هو الوقت الأمثل لاتخاذ موقف شجاع وشرح فوائد التصرف سريعاً للناخبين، خاصة بما أن التكاليف لا تزال في متناول اليد، بدل الانتظار طويلاً وتحمل تكاليف باهظة لاحقاً. ربما يتعين على القارة أن تعيد ابتكار هيكلية سياسية جديدة لتجاوز الفجوات الواضحة في الرؤية الإستراتيجية والتنفيذ العملي. فيجب بذل كل جهد ممكن لتجنب سقوط أوروبا في غياهب النسيان كقوة كبرى ساعية للدعة.

خاص بـ " بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي