ذكريات اقتصادية في رمضان

في ليالي رمضان يتغير العالم في مدينة أبها في كل النواحي، خاصة الجانب الاقتصادي والتسويقي وحركة الأسواق، عندما تبدأ مدافع رمضان من أعلى قلعة شمسان بإطلاق دويها العظيم الذي يملأ المدينة، ومن تلك اللحظة تتغير أبها تماما، فجأة يصبح الشارع القريب من سوق الثلاثاء، (شارع الطبجية) وقد ازدحم بالناس الذين يحاولون اللحاق بآخر البقالات المفتوحة لشراء ما يمكن أن يكون مناسبا لأول سحور.
في العادة يكون الإعلان عن دخول الشهر بعد صلاة العشاء أو بعد الساعة التاسعة أحيانا، فلم تكن هناك وسيلة للتواصل سوى انتظار الإعلان في التلفزيون عند المحظوظين بذلك الجهاز العجيب، والبعض عليه أن ينتظر الإذاعة في منزله أو في سيارته ينتقل من مكان لآخر، والبعض لن يعلم إلا بصوت المدافع.
من المشهور جدا عند أهل أبها أن يكون السحور الأول في رمضان تلكم الأكلة الأكثر شهرة (العريكة) من البر المنتج مع السمن والعسل، وهي جميعا منتجات محلية (وأعتقد أن كثيرا من أهل أبها لم يزالوا كذلك حتى اليوم). ولمن كانوا في مثل سني ذلك الحين صغارا فعليك ألا تنسى في أول ليلة من رمضان أن تعلن بدورك عن دخول الشهر باللعبة المشهورة (الطرقيعا) لعبة تصدر صوتا كدوي الانفجار الصغير نتيجة احتراق البارود فيها، لكن ذلك الصوت لم يكن مجرد لعبة، بل إنه لحظة الحقيقة لنجاح مشروع امتد شهرا كاملا قبل رمضان من أجل صناعة لعبتك الصغيرة بنفسك. جهد كبير من البحث عن الأداة المناسبة من مخلفات السيارات عند ورش الصيانة، ثم اجتماع أبناء الحي جميعهم أمام نار عظيمة قبل دخول رمضان لأجل إحراق هذه الأدوات حتى تصبح مناسبة ثم تزيينها بعصا طويلة نسبيا ومطرزة بالنقوش، لكن كل هذه الجهود قد تذهب سدى إذا لم تصدر اللعبة ذلك الصوت الهائل، أو كان صوتا بائسا في أول ليلة من رمضان أو عند أول الإفطار منه.
لقد كنت أسكن في وسط أبها تقريبا، وقريبا جدا من سوق الثلاثاء أشهر أسواقها وأكثرها عراقة، لذلك كانت السوق هي المكان الأبرز للمنافسة بين الأقران. لقد كان لسوق الثلاثاء في أبها مع رمضان 3 مراحل، قبل وأثناء وعند نهاية رمضان. فكانت تتقلب كلما مضى رمضان تقلبات حادة جدا، ولكل وقت مظاهر اقتصادية عجيبة.
وقد تعجب إذا عرفت أن أهم يوم لسوق الثلاثاء على الإطلاق هو آخر ثلاثاء من شهر شعبان، هذا اليوم الأكثر صخبا، والأكثر دهشة.
لكن المشهد يبدأ فعلا قبل يوم كامل عندما تبدأ السيارات تتوافد على السوق للفوز بمكان مناسب لعرض البضائع التي تم جلبها من مختلف قرى المنطقة، بضائع متنوعة جدا، فهناك من يبيع العسل، وهناك الحطب، وهناك البر والحبوب وهناك الزبيب الرازقي من اليمن، وغيرها كثير جدا، وكل صاحب بضاعة يسعى للفوز بمكان في صدر السوق منذ مساء الإثنين.
لكن المشهد يزداد رهبة مع تزايد أعداد الناس في ساعات الصباح الأولى، وتجد السوق ذروتها عند الساعة السابعة، حيث مختلف الناس التي تبيع منتجاتها من كافة الأصناف وحسب المواسم طبعا. ولأن ذلك الوقت الذي عشت فيه عالم سوق الثلاثاء كان وقت الصيف لذا تجد منتجات الفاكهة الصيفية منتشرة، خاصة البطيخ (نسميه الحبحب)، والتمر في مكان مخصص أدنى السوق، وكان أكثر مكان يستهويني، هناك تجد أنواعا عجيبة من التمور منظومة بطريقة مدهشة، بعضها من التمر الجابس (اليابس) وغالبا من منتجات نجران.
وهناك تجد منتجات تمور بيشة (الصفري خاصة)، وفي الصيف ترى عذوق البلح وهي تزين سيارات تويوتا، في منظر خلاب خاصة لصغير في مثل سني، طبعا الفوز بواحد من هذه العذوق يمثل احتفالا أسريا خاصة إذا علقه الوالد -رحمه الله- في أعلى نقطة من سقف المنزل قريبا من المطبخ، وعلينا أن نجني منه طوال الشهر حتى ينفد.
في يوم الثلاثاء الأخير من شعبان تجد النساء في صفوف يبعن منتجات غاية في العجب، أشكال من الزهور وأشكال من الأعشاب العطرية في سلات جميلة جدا، الألبان لم تكن متوافرة في البقالة كما هو اليوم بل كانت فقط عند هؤلاء النسوة، وطبعا بحكم سني الصغيرة والعمل في السوق كان لا بد أن أعرف أكثرهن شهرة لكثرة السؤال عنهن، فبعض البائعات لا تأتي إلا في يوم الثلاثاء فقط وتأتي مبكرا جدا وتبيع كل منتجاتها قبل الأخريات ثم تذهب ولم تجلس سوى ساعة، وعلى الأخريات الانتظار حتى تنتهي هذه المحظوظة ليجدن زبائنهن ممن لم يتمكن من إدراك الأولى، تعلمت منذ ذلك الحين أن الوقت في الأسواق والاقتصاد ثمين جدا، وتعلمت ألا أحسد أحدا على رزقه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي