لماذا أسس صندوق الاستثمارات العامة شركة الواحة للأسواق الحرة؟
في أحد أيام 1946 وقف شون وكيلي أمام نافذة مكتبه في وسط دبلن ليتأمل العاصمة الأيرلندية المكتظة بالسكان والمنهكة اقتصاديًا نتيجة الحرب العالمية الثانية، بينما حمل في يده عدة قرارات خطيرة لأنها قد تدفع ببلاده إلى الأمام أو تقضي على ما تبقى منها، وبالتأكيد ستطيح به من منصب رئاسة الوزراء، لكن "أوكيلي" لم يتراجع وكان ضمن تلك القرارات افتتاح أول متجر للسوق الحرة في العالم في مطار شانون الذي حظى بتزايد أعداد المسافرين، خاصة بعد اتفاقية النقل الجوي التي وقعتها أيرلندا مع الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، فصارت الرحلات الجوية لا تتوقف بين البلدين.
والمقصود بمتاجر الأسواق الحرة هي تلك المتاجر المخصصة للمسافرين عبر المنافذ الجوية والبحرية والبرية، وتتوافر فيها السلع بدون رسوم جمركية أو بنسب ضئيلة حسب قوانين وقواعد كل دولة، والهدف الأساسي منها توفير احتياجات المسافرين والاستفادة من وجودهم في منشآت حيوية مثل المطارات والموانئ.
ما فعله "أوكيلي" بحسب كتاب "السوق الحرة تاريخ وفكرة" للكاتب ألبرتو مينجاردي المدير العام لمعهد برونو ليوني وهو معهد إيطالي متخصص في السوق الحرة، لم يسهم في تقدم أيرلندا فقط بل العالم كله خاصة أوروبا، إذ بلغت إيرادات الأسواق الحرة في القارة العجوز 15.4 مليار يورو عام 2014 منها 10 مليارات يورو في المطارات والباقي موزع على المنافذ البحرية والبرية، كما أسهمت الأسواق الحرة في توفير 107 آلاف وظيفة أي ما يقرب من 6% من إجمالي الوظائف المتعلقة بالطيران المباشر، وتشير التقديرات إلى أن 9% من تلك العوائد يتم استخدامها في تطوير وتحسين المطارات، وعلى المستوى العالمي بلغت مبيعات الأسواق الحرة 55.3 مليار دولار عام 2021 وفقًا لإحصاءات موقع ستاتيستا.
خليجيًا، كانت الإمارات هي بوابة العبور لهذه الاستثمارات الضخمة من خلال سوق دبي الحرة، التي تأسست عام 1983 وشاركت فيها كل دول الخليج لتصبح واحدة من أكبر مؤسسات العالم لتجارة التجزئة في المطارات، من حيث حجم المبيعات التي وصلت إلى 7.9 مليار درهم إماراتي سنويًا بحسب الموقع الرسمي لسوق دبي، كما احتلت المركز السادس ضمن أكبر أسواق العالم الحرة في عام 2015، وفقًا لتصنيف "إنديا توداي".
هذه الخريطة كانت واضحة أمام صندوق الاستثمارات العامة وهو يطلق منذ أيام شركة الواحة لتكون أول شركة بملكية سعودية مشغلة للأسواق الحرة ومتخصصة في مبيعات التجزئة للمسافرين، وتستهدف الشركة إعادة توجيه جزء أكبر من الإنفاق على السفر إلى الاقتصاد السعودي، كما ستعمل على تطوير منافذ فاخرة للبيع في أماكن مختارة في كافة أنحاء السعودية، إضافة إلى مجموعة متنوعة من السلع بما فيها منتجات سعودية عالية الجودة والنوعية.
وبحسب بيان التأسيس ستتحول "الواحة" إلى رائد وطني في كافة المنافذ وفق مبدأ الأسواق الحرة، كما ستنتشر عند نقاط الحدود البرية والمرافئ مستقبلًا إلى جانب البيع على متن الرحلات الجوية نفسها.
تأسيس شركة الواحة لم يكن إلا ثمار ما زرعته السعودية خلال السنوات الماضية، وتشير الوقائع إلى أن استثمارات الأسواق الحرة كانت على خريطة السعودية منذ نحو عقدين، ففي 2007 تم تأسيس مناطق التجارة الحرة التي توجد فيها السلع معفاة من الرسوم الجمركية والضرائب.
وفي 2014 تم تدشين مشروع "السوق الحرة السعودية" في مطار الملك خالد الدولي على مساحة تبلغ 2000 متر مربع، وبعد ذلك بعامين وصل عدد الأسواق الحرة في مختلف أنحاء السعودية إلى 14 سوق حرة، وقد تم تحويلها إلى أسواق عالمية لتمنح المستثمرين الأجانب فرصة الاستثمار فيها.
وخلال السنوات الماضية كانت الخطوات أكثر فاعلية، ففي 2021 وقعت شركة تهامة مع الهيئة العامة للطيران المدني اتفاقا لتأجير أول وحدتين من أصل 6 وحدات لتجارة التجزئة في مطار الملك عبد العزيز الدولي في جدة، وبناء على ذلك جاءت القفزة الكبرى عام 2023 حين وافق مجلس الوزراء على إنشاء أسواق حرة بحسب الحاجة في المنافذ الجوية والبحرية والبرية والسماح بالبيع فيها للمسافرين القادمين إلى السعودية والمغادرين منها، ونظمت القواعد والشروط اللازمة.
أدت تلك الجهود في النهاية إلى دخول الشركات العالمية مطارات السعودية مثلما حدث في ديسمبر 2023 حين وقعت شركة مطارات جدة اتفاقية تعاون مشترك مع شركة "هاينمن" العالمية لتقديم خيارات التسوق في مناطق الأسواق الحرة في مطار الملك عبد العزيز الدولي، وكذلك في أكتوبر 2024 أبدت شركة "إس بي" المتخصصة في مجالات خدمة المشروبات والمأكولات رغبتها في أن تكون جزءا من إدارة وتشغيل الأسواق الحرة في المطارات السعودية.
مع تأسيس شركة الواحة، لا تستهدف السعودية فقط أن تكون هناك علامة وطنية في هذا المجال الضخم بل تستهدف أيضًا التوسع عالميًا من خلال تصدير السلع السعودية إلى الأسواق الحرة العالمية، ما يفتح قنوات اتصال وشراكات جديدة دولية لتصدير المنتجات، وكل هذا يصب في تمكين القطاع الخاص غير النفطي الذي بات يسهم في إيرادات الدولة بنسبة 37% بحسب تصريحات وزير المالية محمد الجدعان.
من جانب آخر، ستكون آثار شركة الواحة إيجابية في قطاع السياحة، خاصة أن عدد السياح ارتفع بنسبة 40% في عام 2024 مقارنة بعام 2023، كما احتلت السعودية المركز الثالث في نمو عدد السياح الدوليين وإنفاقهم الذي وصل إلى 6 مليارات دولار في النصف الأول فقط من العام السابق.
ومع تضاعف الأسواق الحرة ستتمكن المطارات من تطوير نفسها بشكل ملحوظ، والأهم أن تلك الخطوة تأتي في الوقت الذي تبني فيه السعودية مطار الملك سلمان الدولي في الرياض، الذي سيكون بين أكبر مطارات العالم بقدرة استيعاب تبلغ 120 مليون مسافر سنويًا، وهؤلاء سيكونون على موعد مع تجربة استثنائية في التسوق بسلع أصلية غير قابلة للتقليد.