سياسات ترمب تدفع السياح إلى التردد في زيارة أمريكا
في مستهل ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الثانية، أوقفت سلطات الهجرة والجمارك امرأة ألمانية لدى عبورها الحدود من المكسيك واحتجزتها لأكثر من شهر، وبعد بضعة أسابيع، احتجزت ممثلة كندية لمدة 12 يوما في مركز عند الحدود الجنوبية بسبب تعقيدات بيروقراطية مرتبطة بطلب تأشيرة عمل. وفي حادثة أخرى، احتجزت عالما فرنسيا في مطار هيوستن كان متجها للمشاركة في مؤتمر فلكي ليوم كامل قبل أن تمنعه من الدخول وتعيده إلى بلاده.
تراجع حجوزات السفر إلى أمريكا
بين دبلوماسيون أجانب أن حصول خلافات على الحدود الأمريكية ليس جديدا لا سيما بما يخص الأوراق الرسمية، لكنهم أعربوا عن استغرابهم للتصعيد الملحوظ في صرامة إجراءات الاحتجاز وطول أمدها خلال الفترة القصيرة التي أعقبت عودة ترمب إلى البيت الأبيض.
كما أبدوا دهشتهم من عناوين الأخبار التي تتصدر المشهد، والتي تبدو الإدارة الجديدة إما غير مكترثة بها، أو عاجزة عن احتوائها، وقال مسؤول قنصلي أوروبي طلب عدم كشف هويته "تعمل أجهزة أمن الحدود وفق تعليمات جديدة، ما زاد من تشدّدها. ومع ذلك، يبدو أن الحكومة الأمريكية تسعى من خلال هذه الإجراءات إلى توجيه رسالة تحذيرية".
ما الغرض من التحذير؟ قالت هيئة الجمارك وحماية الحدود إن تراجع عدد محاولات الدخول غير الشرعي إلى البلاد مكن عناصرها من التفرغ لتعزيز التدقيق الأمني عند المنافذ الحدودية. وبين هيلتون بيكهام مساعد مفوض الإعلام في الهيئة، أن "هذه الإجراءات لا تستدعي قلق المسافرين الشرعيين، أما الذين يخططون لدخول أمريكا بطرق احتيالية أو لأغراض خبيثة، فننصحهم ألا يحاولوا".
تشديد الرقابة على الحدود يعني أن الإجراءات باتت تطال المسافرين العاديين، من سياح ومشاركين في مؤتمرات ومسافرين لأغراض العمل، ومنهم القادمون من دول تعد تقليديا حليفة لأمريكا، ومع تناقل وسائل إعلام عالمية روايات عن المعاملة العدائية التي يتعرض لها بعض المسافرين عند نقاط العبور، تشير المعطيات الأولية إلى تراجع محتمل في أعداد الزوار الدوليين إلى أمريكا.
أفاد تقرير من شركة "أو إيه جي أفيايشن وورلدوايد" بأن حجوزات الرحلات الجوية من كندا إلى الولايات المتحدة حتى سبتمبر سجلت تراجعا حادا قدره 70% مقارنة مع الفترة المقابلة من العام الماضي، ويرجح أن يكون هذا الانخفاض مرتبطا بحملات مقاطعة المنتجات الأمريكية في كندا في أعقاب تهديدات ترمب بفرض رسوم جمركية، بجانب تصاعد القلق من تصريحاته حول ضم كندا لتصبح الولاية الأمريكية الـ 51.
في السياق نفسه قال سيباستيان بازان، الرئيس التنفيذي لمجموعة الفنادق الفرنسية "أكور"، مالكة علامات فندقية بارزة مثل "فيرمونت" و"سوفيتيل"، في مقابلة مع "بلومبرغ" إن الحجوزات الأوروبية إلى أمريكا هذا الصيف تراجعت 25%، مرجّحاً أن يكون "الصدى السلبي" الناتج عن احتجاز المسافرين على الحدود أحد أبرز أسباب ذلك.
تضرر الميزان التجاري
كان آدم ساكس رئيس شركة "توريسم إكونوميكس"، يتوقع أن تستعيد حركة الوافدين الدوليين عافيتها هذا العام بعد ركود طويل سببه كورونا، لكنه يستبعد اليوم تعافي قطاع السفر بشكل كامل قبل 2029، في تقدير ينذر بانعكاسات سلبية على استضافات أمريكا الرياضية مثل كأس العالم 2026 للمنتخبات وكأس العالم 2025 للأندية، وأولمبياد 2028. قال "هذا يعني أن عقدا كاملا سيفصل بين مرحلة ما قبل الجائحة والتعافي التام".
أشار ساكس إلى أن احتجاز المسافرين على الحدود، إلى جانب الحروب التجارية التي أطلقها ترمب وكذلك تقاربه مع روسيا، قد يدفع كثيراً من السياح، بالأخص الأوروبيين والكنديين، إلى اختيار وجهات بديلة. أضاف: "تجتمع كلّ هذه العوامل لتجعل أمريكا أشبه بدولة منبوذة عالمياً على صعيد السياحة".
رغم أن ساكس يتوقع أن يكون التراجع أقل حدة في 2025، مع انخفاض يقدر بـ 20% في أعداد الزوار الكنديين، و 9.4% في إجمالي الوافدين مقارنة بـ 2024، يشير إلى أن هذا التراجع كفيل بإحداث خسائر بـ 9 مليارات دولار في إنفاق السياح. مضيفا "المفارقة أن الرسوم الجمركية صممت للمساعدة في معالجة العجز التجاري الأمريكي، لكن تأثيرها المباشر في قطاع السفر يلحق ضررا بالميزان التجاري".
بحسب مكتب التحليل الاقتصادي، أنفق السياح الأجانب في أمريكا ما يزيد عما أنفقه الأمريكيون في الخارج بمقدار 20 مليار دولار في 2019، قال ساكس "هذا الفارق يحتسب في البيانات كمساهمة إيجابية في الميزان التجاري".
أسباب للاحتجاز
لا يوجد تشابه بين انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتكتيكات ترمب يسمح بمقارنة، إلا أن تداعيات "بريكست" المستمرة على حركة السفر تقدم لمحة عما قد تؤول إليه الأمور في الولايات المتحدة على المدى الطويل.
مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2020، فقد مواطنو دول الاتحاد الحق في دخول البلاد بلا جوازات سفر، ما وجه ضربة قاسية لقطاعي السياحة والسفر لأغراض العمل. ثم عادت وتراجعت أعداد المسافرين أكثر مع تفشي جائحة كورونا.
ما تزال المعطيات تشير إلى أن القطاع لم يستعد عافيته بالكامل حتى اليوم. إذ توقعت هيئة السياحة البريطانية أن يبلغ إنفاق زوار المملكة المتحدة في 2025 نحو 93% من مستواه في 2019، بعد احتساب التضخم.
في أمريكا، تقول الحكومة إن قطاع السفر والسياحة رفد الاقتصاد الأمريكي بـ 2.3 تريليون دولار في 2022، وأنتج 9.5 مليون وظيفة، وقالت رابطة السفر الأمريكية، وهي هيئة مدافعة عن القطاع، إن "الزوار الدوليين يلعبون دوراً حيوياً في الاقتصاد الأمريكي".
قال المحامي المتخصص في شؤون الهجرة في سان دييغو جاكوب سابوشنيك إن المسافرين الأكثر عرضة للتوقيف على الحدود هم من دونت بحقهم ملاحظات - سواء كانت مغلوطة أو حقيقية - في سجلات هيئة الجمارك وحماية الحدود الأمريكية، وعادة ما يكون ذلك من فعل أحد منسوبيها خلال زيارة سابقة.
أضاف "ثمة لحظة خلال الاستجواب ينقلب فيها المشهد إلى قاتم. في السابق، كان يُكتفى برفض الدخول وإعادة المسافر إلى بلده. اليوم، يبلغ بأنه غير مؤهل للدخول وأنه سيُرحّل، لكن ليس شفهيا، فجأة تجد نفسك محتجزا .. أو على متن طائرة الترحيل".
على سبيل المثال، في قضية حظيت بتغطية إعلامية واسعة، احتُجزت فنانة الوشم الألمانية جيسيكا بروشه، من برلين، لأسابيع أثناء توجّهها إلى معرض فني في لوس أنجلوس في يناير، إذ اتهمها عناصر الحدود الأمريكيون بأنها مارست نشاطاً تجارياً غير مصرّح به خلال زيارة سابقة إلى الولايات المتحدة.
أما العالم الفرنسي، الذي لم تُكشف هويته، فكان يحتفظ على هاتفه بمعلومات حساسة مصدرها "مختبر لوس ألاموس الوطني"، في مخالفة لاتفاقية عدم إفشاء المعلومات، وفق ما ذكرت المتحدثة باسم وزارة الأمن الداخلي، تريشيا ماكلوغلين، في منشور على منصة "إكس".
خطأ بيروقراطي يقود إلى توقيف
اختبرت الممثلة الكندية ياسمين موني التي احتُجزت عند معبر أوتاي ميسا الحدودي في ولاية كاليفورنيا، عن قرب كيف يمكن لتعقيدات بيروقراطية بسيطة أن تتراكم وتتحوّل إلى مشكلة حقيقية، وكانت موني قد تقدّمت بطلب للحصول على تأشيرة عمل في مارس 2024 لتمثيل شركة مشروبات أميركية، لكن طلبها رفض في البداية بسبب غياب شعار الشركة عن بعض المستندات.
تقول إنها سارعت إلى تصحيح الخطأ، غير أن موظفاً آخر طرح ملاحظات جديدة في نوفمبر، رافضاً طلبها. أضافت: "لم أكن أعلم أن مجرد مشكلة واحدة، حتى لو كانت بسيطة، تُسجّل في ملفك .. ومن هناك تبدأ بالتضخّم ككرة ثلج"، في مارس 2025، أعادت تقديم طلب للحصول على تأشيرة عمل عند معبر أوتاي ميسا بناءً على نصيحة محاميها، لكن هذه المرة، أبلغها أحد العناصر بأنها لم تعد مؤهلة للحصول على التأشيرة.
جلست موني محبطة تحاول حجز تذكرة عودة إلى فانكوفر، لكن بدل ذلك اقتيدت إلى غرفة جانبية، حيث خضعت لتفتيش جسدي ثم كُبلت يداها وجُردت من أغراضها الشخصية ومُنعَت من إجراء اتصال هاتفي ثم احتجزت في زنزانة باردة، وقالت موني التي تبلغ من العمر 35 عاما "شعرت وكأنني اختُطفت... تواصل معي عدد كبير من المحامين، وكلهم يقولون إنهم لم يشهدوا شيئا كهذا من قبل على المعابر الحدودية".
دور الشركات الخاصة المسؤولة عن المحتجزين
بعد 3 أيام، نقلت إلى "سجن فعلي" على حد وصفها، هو مركز احتجاز أوتاي ميسا، الواقع على مقربة من المعبر الحدودي الذي يحمل الاسم نفسه، قبل أن تُحوَّل لاحقاً إلى مركز احتجاز تابع لوكالة الهجرة والجمارك الأمريكية في ولاية أريزونا، أمضت موني ما يقارب أسبوعين خلف القضبان. وقد طرحت بعد الإفراج عنها علامات استفهام حول دور الشركات الخاصة التي تتولى إدارة هذه المراكز لصالح وكالة الهجرة والجمارك وهيئة الجمارك وحماية الحدود.
وأشارت إلى أن شركتي "جي إي أو" و"كورسيفيك" تتلقيان تمويلا اتحاديا يُحتسب على أساس الكلفة اليومية التقديرية عن كل محتجز، بالتالي فإنها تنتفع من إطالة أمد التوقيف، رفضت الشركتان الاتهامات الموجهة إليهما، وأكدتا أن تحديد مدة الاحتجاز على الحدود ومكان التوقيف هو من صلاحية مسؤولين حكوميين وليس المتعهدين من القطاع الخاص.
قال رايان غوستين، المتحدث باسم شركة "كورسيفيك"، التي تدير مركز احتجاز أوتاي ميسا: "الشركة لا تُعنى بإنفاذ قوانين الهجرة، ولا تعتقل أي شخص يُشتبه في مخالفته لتلك القوانين، كما ليست ذات صلاحية في ما يتعلّق بترحيل الأفراد أو الإفراج عنهم أو نقلهم بين مراكز الاحتجاز".
في السياق نفسه، قال كريستوفر فيريرا، المتحدث باسم شركة "جي إي أو" إن "هذه القرارات تتخذها الحكومة الاتحادية حصرا"، لكن الشركتان تبدوان مرحبتين بسياسات ترمب الحدودية الجديدة. وقال مسؤولون تنفيذيون في شركة "جي إي أو" خلال مكالمة متفائلة مع المستثمرين لمناقشة الأرباح في فبراير إنهم يتوقعون "مستوى غير مسبوق من النشاط التشغيلي".
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يخدم هذا التشدد في تطبيق القانون على مخالفات حدودية بسيطة المصلحة العامة في الولايات المتحدة ؟، يعتقد المحامي سابوشنيك أن المستفيد الوحيد من هذه السياسة هو ترمب نفسه، وقال "يعود ذلك بالفائدة على على شخص واحد فقط. هذه رسالة سياسية بالدرجة الأولى، مفادها: قلتُ لكم ما سأفعله، وها أنا أنفّذه... فلتأخذوا ما أقول على محمل الجد".