الخميس, 8 مايو 2025 | 10 ذو القَعْدةِ 1446


هل استفادت الدول النامية من نظام الاقتصاد العالمي الحديث؟

أدت المتغيرات الدولية في الاقتصاد العالمي التي تم التطرق لها في المقالة السابقة لتغيير جوهري في هيكل الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية. فبعد أن كانت مساهمة الدول الصاعدة اقتصاديا من الدول النامية في الاقتصاد العالمي في 1990 لا تتجاوز 34% ارتفعت لما يعادل 60% من الاقتصاد العالمي في 2023، وفي التجارة الدولية نمت بمتوسط سنوي 6% وهو أعلى من المتوسط السنوي العالمي البالغ 4%، بينما انخفضت نسبة مساهمة دول مجموعة السبع (الولايات المتحدة، كندا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا، واليابان) من 48% إلى 28% للفترة نفسها.
حيث أسهمت العلاقات المتعددة الأطراف والنظام الدولي في تقليل المخاطر وعدم اليقين على المستثمرين لتتنافس الدول لجذب هذه الاستثمارات من خلال تبني سياسات اقتصادية تساهم في تعزيز تنافسية اقتصادياتها متبنية استراتيجية تنموية قائمة على الصادرات. حيث ارتفع تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة ما يعادل تقريبا 60 بليون دولار في 1960 لأكثر من 1.3 ترليون دولار في 2023 ليبلغ الإجمالي التراكمي للاستثمارات الأجنبية 41 تريليون دولار. وكان لمنطقة شرق وجنوب وشرق-جنوب آسيا نصيب الأسد بنسبة 31% نتيجة لتبنيها سياسات الانفتاح الاقتصادي والتنمية المعتمدة على الصادرات، ما انعكس إيجابا على نموها الاقتصادي الذي بلغ في المتوسط 7%. كما انخفضت نسبة الفقر في أغلب هذه الدول من متوسط 25% أو أكثر لأقل من 5%، كما أن بعض هذه الدول استطاعت أن تقضي على الفقر المدقع فيها.
فالنمو الاقتصادي لأي دولة في الوقت الحالي نتيجة لتشابك الإنتاج من خلال سلاسل الإنتاج والاعتمادية المتبادلة بين دول العالم يتأثر بحركة التجارة الدولية. فكما لاحظنا في أزمة كورونا مع تعطل الإنتاج وحركة الملاحة في بعض الدول أدى لموجة تضخم مرتفعة اكتسحت الاقتصاد العالمي. ما أدى إلى ارتفاع تكاليف الحياة. ولذا لا غنى للعالم عن حركة التجارة وانسيابيتها. فقد كان للفترة التي اتسمت بالانفتاح الاقتصادي والتعاون الدولي من خلال المنظمات الدولية والاتفاقيات الثنائية دور جوهري في انخفاض معدلات التضخم عالميا لأكثر من 60% في المتوسط خلال تلك الفترة التي أعقبت إنشاء منظمة التجارة العالمية 1995 حتى 2019 قبل جائحة كورونا. وهي أطول فترة تمر على الاقتصاد العالمي في القرون الأخيرة تستمر فيها معدلات التضخم بالانخفاض لفترة طويلة. والتي كانت من أسباب النمو المطرد للاقتصاد العالمي خلال تلك الحقبة.
ونتج عن هذا الاندماج في الاقتصاد العالمي والاستفادة من الميز التنافسية بين الدول لإنتاج السلع بأقل التكاليف الممكنة لرفع كفاءة الاقتصاد العالمي وانخفاض التضخم عالميا لفترة تجاوزت الأربعين عام ما رفع معدلات النمو الاقتصادي للعالم. واستطاع القطاع الخاص في ظل انخفاض المخاطر نتيجة لدور العلاقات المتعددة الأطراف للانتقال بين الدول بحثا عن الفرص كما تسابقت الدول في تحسين أنظمتها الاقتصادية لجذب المستثمرين ورفع تنافسية اقتصاداتها.
وأصبح التسابق المحموم بين الحكومات في تبني سياسات اقتصادية وقوانين وأنظمة لرفع الإنتاجية وتقليل المخاطر على المستثمرين وتحسين تنافسية الاقتصاد لمساعدة المنتجين على إنتاج السلع بأقل التكاليف الممكنة. ولكن ما أقدمت عليه الولايات المتحدة الأمريكية في الأسابيع الأخيرة برفع الرسوم الجمركية على دول العالم وبنسب متفاوتة، متجاهلة اتفاقياتها الثنائية ومتعددة الأطراف والتزاماتها في المنظمات الدولية، يشكل نقطة تحول في النظام الاقتصادي الحديث. وقد يؤدي إلى انهيار نظام الاقتصاد العالمي الحديث الذي هندسته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا تحول العالم من التعاون للصدام واستمرّت الدول في حرب الرسوم الجمركية كما هي البدايات الآن، فسيقود ذلك لرفع درجة عدم اليقين لدى المستثمرين وزيادة المخاطر وارتفاع تكاليف الانتاج مما يؤدي لانخفاض الانتاج وسيقود ذلك لنمو اقتصادي أقل وترتفع البطالة، ليهيئ كما تم ذكره في المقالة السابقة لكساد تضخمي.
وعلى الرغم من الفوائد التي تحققت للعالم من نظام الاقتصاد العالمي الحديث الذي تم بناءه بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة للدول النامية، فإنه لا شك يحتاج إلى تحديث وتطوير خاصة في ظل تغير موازين القوى الاقتصادية والثورة الصناعية الرابعة التي أدت إلى دور متعاظم للإنترنت والتطورات التقنية في تسيير الاقتصاد.
ولذا فان الدول وخاصة الدول النامية متوسطة الدخل تحتاج بقاء هذا النظام مع أهمية التعديل والتحسين عليه لأنها من أكبر الخاسرين في حالة تحول العالم من عالم تحكمه القوانين والاتفاقيات الدولية في الجانب الاقتصادي، مع بعض الاستثناءات لبعض الدول الكبرى ولكنها محدودة ولا تؤدي إلى انهيار النظام، إلى عالم تعم فيه الفوضى الاقتصادية وترتفع فيه درجة المخاطر وعدم اليقين سواءً في الاستثمار أو التجارة الدولية. ما يضع الدول النامية ومتوسطة الدخل في موقف تفاوضي ضعيف لتحقيق مصالحها الوطنية. كما أن إمكانية تسارع التنمية الاقتصادية من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية وتشجيع الصادرات لن تكون متاحة في مثل هذه الحالة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي