نحو اقتصاد عالمي أكثر توازنا وأقدر على الصمود

منذ 6 أشهر، وفي هذا المكان تحديدا، تحدثت عن انخفاض النمو وارتفاع الدين. ولكنني تحدثت أيضا عن القدرة على الصمود -في البلدان التي تفلت من براثن الصدمات الكبيرة بفضل قوة الأساسيات ومرونة السياسات. والآن، تُختبر قدرة البلدان على الصمود مجددا- في ظل إعادة إطلاق النظام التجاري العالمي.
فتقلبات الأسواق المالية في صعود. وعدم اليقين بشأن السياسات التجارية بلغ حدودا غير مسبوقة -ومع احتدام التوترات التجارية، انخفضت أسعار الأسهم العالمية، حتى وإن ظل كثير من التقييمات على ارتفاعه- ونرى هنا لمحة عن حركة الأسواق. وهذه تذكرة بأننا نعيش في عالم من التحولات المفاجئة والكاسحة. وهي دعوة إلى الاستجابة بحكمة. فإيجاد اقتصاد عالمي أكثر توازنا وأقدر على الصمود هدف قريب المنال. وعلينا العمل على تحقيقه.
وهنا أعرض القصة بالإجابة عن 3 أسئلة رئيسية. ما السياق؟ وما تداعياته؟ والأهم من ذلك، ما الذي يمكن للبلدان أن تفعله؟
الجزء الأول: ما السياق؟
إن التوترات التجارية مثل قِدر طال غليانه، وقد بلغ اليوم نقطة الفوران. وما نراه اليوم هو، إلى حد كبير، نتيجة تآكل الثقة - الثقة في النظام الدولي، والثقة بين البلدان. فقد انتشل التكامل الاقتصادي العالمي أناسا كثر من براثن الفقر وجعل العالم كله مكانا أفضل. ولكن المنافع لم تكن للجميع. فقد تعرضت المجتمعات المحلية للتفريغ بسبب انتقال الوظائف إلى الخارج. وتم كبح الأجور بسبب توافر المزيد من العمالة منخفضة التكلفة. وارتفعت الأسعار حين اضطربت سلاسل الإمداد العالمية. وكثيرون ينحون باللوم على النظام الاقتصادي الدولي بسبب الشعور بعدم الإنصاف في حياتهم.
وقد غذَّت التشوهات التجارية – الحواجز الجمركية وغير الجمركية – التصورات السلبية إزاء نظام متعدد الأطراف يُرى أنه أخفق في توفير بيئة تقوم على تكافؤ الفرص. نحن نلتزم بقواعد اللعبة في حين يتلاعب آخرون بالنظام بلا أي عقوبة. وهكذا تغذي الاختلالات التجارية التوترات التجارية. ثم تأتي اعتبارات الأمن القومي. ففي عالم متعدد الأقطاب، قد يكون مكان صنع المنتج أهم من تكلفته. فمنطق الأمن القومي يقول بضرورة صناعة مجموعة كبيرة من السلع الإستراتيجية محليا، بداية من رقائق الكمبيوتر وحتى الصلب، وأن هذا الأمر يستحق ما يُنفق من أجله. وفي ذلك إحياء لفكر الاعتماد على الذات.
وجميع هذه المخاوف، مجتمعة، قد بلغت اليوم نقطة الفوران، وأصبحنا في عالم يزداد فيه الاهتمام بالصناعة على حساب قطاع الخدمات، وتطغى المصالح القومية على المخاوف العالمية، وتستدعي الأفعال الحازمة ردود أفعال حازمة في المقابل.
الجزء الثاني: ما تداعيته؟
الإجابة القصيرة هي أن التداعيات هائلة.
لنبدأ بالتعريفات الجمركية. بالنظر إلى جميع زيادات التعريفات الجمركية وإجراءات تعليقها وحالات التصعيد والإعفاءات، مجتمعة، يبدو واضحا أن معدل التعريفة الفعلي الأمريكي قد قفز إلى مستويات لم نشهدها منذ أزمنة بعيدة
ثم تأتي التداعيات. فبينما يتصادم العمالقة، تجد البلدان الأصغر نفسها عالقة وسط تيارات متعاكسة. والصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة - على الرغم من انخفاض وارداتها نسبيا إلى إجمالي الناتج المحلي – هي أكبر 3 مستوردين في العالم .
فالاقتصادات المتقدمة الأصغر ومعظم الأسواق الصاعدة أكثر اعتمادا على التجارة لتحقيق النمو، وبالتالي فهي أكثر عرضة للمخاطر، بما في ذلك تشديد الأوضاع المالية. وتواجه البلدان منخفضة الدخل تحديا إضافيا يتمثل في انهيار تدفقات المعونة في ظل تحول تركيز البلدان المانحة إلى التعامل مع المخاوف المحلية.
ما آثار هذه التوترات؟ اسمحوا لي أن أذكر 3 ملاحظات:

  • أولا، عدم اليقين أمر مكلف. فتعقيد سلاسل الإمداد الحديثة يعني أن المدخلات المستوردة تدخل في صناعة مجموعة كبيرة من المنتجات المحلية. ويمكن أن تتأثر تكلفة بند واحد بالتعريفات الجمركية في عشرات البلدان. وفي عالم التعريفات الجمركية الثنائية، التي قد يتحرك كل منها صعودا أو هبوطا، يصبح التخطيط صعبا. فما النتيجة؟ سفن عالقة في البحر لا تدري إلى أي ميناء تتجه، وقرارات استثمار مؤجلة، وتقلبات في الأسواق المالية، وزيادة في الادخار التحوطي. وكلما طالت حالة عدم اليقين، زادت التكلفة.
  • ثانيا، زيادة الحواجز التجارية تلحق أضرارا مباشرة بالنمو. فالتعريفات الجمركية، على غرار جميع الضرائب، تزيد الإيرادات على حساب انخفاض الأنشطة ونقلها - وتشير الأدلة من فترات سابقة إلى أن الشركاء التجاريين ليسوا وحدهم من يتحملون ارتفاع معدلات التعريفات الجمركية.
  • أما الملاحظة الثالثة فهي أن الحمائية تؤدي إلى تآكل الإنتاجية على المدى الطويل، ولا سيما في الاقتصادات الأصغر. فحماية الصناعات من المنافسة تحد من الحوافز التي تشجع كفاءة تخصيص الموارد.
  • وفي نهاية المطاف، التجارة تشبه المياه. فحين تضع البلدان معوقات في صورة حواجز جمركية وغير جمركية، ينحرف التيار عن مجراه. وقد تجد بعض القطاعات في بعض البلدان نفسها وقد غمرتها الواردات الرخيصة، وربما تشهد قطاعات أخرى نقصا في الواردات. وتستمر التجارة، ولكن الاضطرابات مكلفة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي