شاعر فوّار
يقول زهير بن أبي سلمى في أشهر قصائده بعد المعلقة:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
ومن هذا البيت يتضح أن زهير ظل يكتب الشعر بذات القوة حتى الثمانين من عمره وربما أبعد من ذلك إذ اختلف الرواة حول عمره فمنهم من قال عاش إلى الثمانين ومنهم من قال إلى التسعين، وما يعنينا في هذا الأمر هو أن الشعراء من العصر الجاهلي وإلى وقتٍ قريب ظلوا يحتفظون بوهج الموهبة حتى وقتٍ متأخرٍ من أعمارهم، وليس في ذلك غرابة وإنما الغرابة تكمن في شعراء هذا الزمن الغريب، الذين لا يستطيع الشاعر منهم أن يبقى حاضراً بقوته ذاتها حين يصل إلى الأربعين أو الخمسين في أفضل الأحوال، بل إننا وصلنا إلى مرحلة عجيبة من انطفاء المواهب الشابة في المسافة القصيرة جداً بين الثلاثين من العمر والأربعين منه، وقديماً قيل في التراث العربي إن (ثورة الشعر الحقيقية بين الثلاثين والستين) أي أن ما قبلها يعدّ من باب المحاولات الشعرية للعلوّ وما بعدها من باب المحاولات الشعرية للبقاء في الأعلى، ولكننا نصطدم بين فترةٍ وأخرى بذوبانٍ سريعٍ لشمعِ مواهبٍ لم تضئ لأبعدَ من خصرها الملتوي، في هذا الزمن ينطفئ الشاعر مبكراً جداً، منهم من يقف بفوران الشعر عند سطح الثلاثين ومنهم من يجهد نفسه ويغالبها ليصل إلى الأربعين، وتبدأ بعد الأربعين سقطات الشعراء وعودتهم إلى مرحلة الركاكة في البناء والسذاجة في الطرح وكأنهم للتوّ بدأوا الغواية، وما أعجب من جيل الثمانينيات الذي بدأ نجومه في الأفول بعد الأربعين سوى جيل التسعينيات والألفية الجديدة والذين تساقطوا بمجرد مرورهم بجسر الثلاثين، حتى وصل بنا الحال إلى جيل " الفضائيات " والمناسبات العامة الذي لن تجد شبيهاً له أنسب من فتامين c المعروف بالفوّار الذي يذوب وبسرعة فائقة في الكأس المملوء بالماء بعد أن يعلن فورته فوق سطح الماء بحركة سريعة لافتة للنظر تشبه حركاتهم وإيماءاتهم حين يلقون قصائدهم على الملأ، وإن كان ثمّة سؤال يجب طرحه فهو عن الأسباب الحقيقية وراء هذه الانطفاءات العجيبة للأجيال في الشعر المحكي بدءاً من جيل الثمانينات وانتهاء بهذا الجيل مع حفظ خصوصية الانطفاء لكل جيل بالطبع.