«النجر» .. صوته لجذب الضيوف .. و«البغدادي» أفضل أنواعه

النجر من أدوات العربي العزيزة عليه والقريبة من نفسه، وكان موجودا في كل بيوت أهل الجزيرة العربية تقريبا، وهو رمز للكرم حين تتعمد ضربه بقوة حتى يصدر صوتا عاليا بغرض جذب الضيوف. ولرنين النجر عند ابن الجزيرة العربية وقع جميل في النفس، لذلك هو يتفنن في استخدامه، وفي ضربه عموديا وأفقيا، كما يتفنن في دقة بين القوة والهدوء وفق نغمات معروفة. يقول الشاعر عبدالله بن محمد بن حزيم الملقب بالدندان واصفا ذلك:

"مل قلب طايل غله وكاني
مثل نجر كل ما حسوه دني
ان صقع الاصبار يشهر بعوياني
وان ركد دقه ضلوعه لجلجني".

يستعمل النجر لطحن القهوة بعد حمسها، إذ يوضع مجموعة من حباتها في النجر (الهاون) ثم يبدأ من يريد صنع القهوة في طحنها ودقها، مصدرا صوتا قويا وجميلا يسمعه الجيران والمارة بقرب البيت، متفننا في تنويع النغمات، وكلما طال صوت الرنين فهذه علامة على جودة النجر. ويحرص الكرماء أن يكون صوت النجر عاليا كي يسمعه المارة والجيران حتى يأتي من يريد منهم شرب القهوة. يقول الشاعر عجران بن شرفي (ت 1318هـ) طالبا من الذي يطبخ القهوة، أن يضرب النجر بقوة كي يعلو صوته مدويا ويسمعه أحد أصدقائه فيأتي لشرب القهوة

"يا فهيد صك النجر يوحيك بتال
صكه كفاك الله جميع الأذايا
ثم دن نجر في الدهر يعول اعوال
اعوال سبع لي حدته الضرايا
وعليه كيف لي من البن فنجال
جعل الرخوم ونسلها لك فدايا".

لماذا سمي بالنجر؟
لم أتمكن من معرفة الوقت الذي تم فيه صناعة النجر لأول مرة من خلال المراجع والمصادر التي اطلعت عليها، ويبدو أنه كان تطورا منطقيا لحاجة المجتمع إليه، فتمت صناعته وتطويره بأشكال مختلفة من حين لآخر. ومن المعروف أن النجر يسمى في بعض الدول العربية بــ (الهاون) و(المهباش) و(المدق)، كما يسميه البعض (النجيرة) و(النقيرة) وهو الحجري. أما المهباش، ففي لغة العرب: الهبش هو الضرب الموجع، ومن هنا جاء تسمية النجر بالمهباش، لأنه يضرب أو يدق أو يطحن به حبوب القهوة وغيرها، أما الهاون فيذكر الفيروز أبادي أن الهاون الذي يدق فيه، وهذا يعني أن الاسم قديم. أما لماذا سمي بالنجر، فليس لدي إجابة دقيقة، لكن نستطيع أن نستشف من معاجم اللغة أن الاسم جاء اشتقاقا من لغة العرب، فالنجر في لغة العرب هو أن تضم اصبعك الوسطى (البرجم) ثم تضرب بها رأس أحد. ويبدو لي أنه أخذ من هذا المعنى.
#2#
أنواعه

يصنع النجر غالبا من النحاس اللامع الصلب القوي، ويكون على شكل مخروطي، وله قاعدة قوية سميكة كي تتحمل الطرق والطحن والدق المتكرر، ولها عصا غليظة تسمى (يد النجر) وهي مفلطحة صلبة، يطحن بها القهوة والهيل التي توضع في النجر، ومن أفضل أنواع النجر النحاسي البغدادي نسبة إلى مدينة بغداد لصناعته بها. وللنجر أشكال مختلفة متفاوتة الحجم، فبعضها صغير، وبعضها كبير، كما تختلف زخرفتها من صانع لآخر ومن منطقة لأخرى.
ومنذ أن انتشرت الطاحونة الكهربائية ودخلت كل بيت لم نعد نسمع صوت النجر، فقد تم الاستغناء عنه نظرا لسهولة استخدام الطاحونة الكهربائية وسرعتها في طحن القهوة والهيل وغير ذلك، وهذا ما آلم الشاعر حامد بن مايقة فصرخ شاكيا بأبيات جميلة معبرة يقول فيها:

"يا عاملين البن وسط التراميس
لا تقطعونه عن حشا مرضعاته
ردوه لمات الخشوم المقابيس
صفر الدلال اللي عليها حلاته
ما عاد شفنا البن وسط المحاميس
يحمس وصوت النجر طول سكاته".

نجر المطوع

المطوع بلهجتنا العامية هو إمام المسجد، الذي يعرف شيئا من أمور الدين، ولم يؤهله هذا العلم لأن يرتقي إلى درجة العلماء. ومن هؤلاء "المطاوعة" سعد بن ناصر "مطوع نفي"، ونفي: بلدة في عالية نجد، وأميرها آنذاك الشاعر الكبير عبد الله بن سبيل. عاش مطوع نفي، أو سعيدان المطوع في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وعرف بالكرم، إضافة إلى كونه شاعرا فحلا قوي العارضة. كان عند سعيدان نجر يطحن به القهوة، لكن هذا النجر كان يعني له الشيء الكثير، فهو رمز الكرم بالنسبة له، وتربطه به علاقة عشق غريبة فلا يمكنه الاستغناء عنه بأي حال من الأحوال، ويبدو أن هذا النجر كان جميل المنظر، لذلك كان يعجب كل من يراه من زوار "مطوع نفي"، ويطلبون من صاحبه بيعه، لكنه يرفض مهما أصروا عليه وبالغوا في ثمنه. وفي يوم من الأيام جاء أحد رجال البادية واسمه دغيليب بن خنيصر الأسعدي إلى "مطوع نفي" زائرا، فلما رأى النجر وأعجبه طلب من سعيدان أن يبيعه إياه، وألح عليه في ذلك، وكان في المجلس بعض الأشخاص فأصروا على سعيدان أن يبيعه، لكن سعيدان المطوع رفض وأصر على رفضه، وقال هذه القصيدة:

"نجر المطوع يوم سامه دغيليب
هو يحسب اني جالبه للمبيعه
صكوا بي الأجناب هم والأصاحيب
قالوا تبيعه قلت نجري ما ابيعه
باغ الى جونا هل الفطر الشيب
اجواد مرفقهم عدو الشريعه
اول قراهم دلتين وترحيب
ترحيبه سهله ونفس رفيعه".

عذرا فهذا النجر لإكرام الضيوف، لن أبيعه مهما أصررتم. ويأتي شخص آخر اسمه شارع الوهاب، ويسوم النجر من مطوع نفي، وهيهات أن يبيعه، وكان الرد:

"النجر سامه شارع الوهاب
سامه وكثر مير انا عييت
يا الله لا تتكل على الأسباب
إن كان بعت النجر بعت البيت".
#3#
ذاعت شهرة هذا النجر، لكثرة القصائد التي قالها فيه سعيدان المطوع، وعرفه الناس، وفي سنة 1325 هـ جاء الأمير محمد بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، ونزل قرب نفي بعد غزوة غزاها على إحدى القبائل التي تقطن هناك، وخطر في بال الأمير محمد نجر المطوع، فأرسل أحد رجاله واسمه سعد بن بيشان إلى مطوع نفي ليحضر له هذا النجر، فلما وصل الرسول إلى سعيدان، وطلب منه النجر رفض أن يعطيه إياه، وقال: بل أذهب به بنفسي إلى الأمير، وفعلا أخذ نجره وذهب به حتى وضعه بين يدي الأمير محمد، وقال له: أيها الأمير أتاني مرسولك سعد بن بيشان يطلب النجر، فأتيت به بنفسي، وما حملني على ذلك إلا أبيات شعر قلتها فيه حينما أتاني يطلبه. وسأسمعك الأبيات:

"من أول يا نجر ما اسمع بك السوم
وحلفت يا أني لك فلا أعطي ولا أبيع
يا طول ما نبهت عين بها النوم
وإن دن حسك فجع القلب تفجيع
ويوم طلبوك اللي عسى عزهم دوم
ريف الغريب وستر بيض مفاريع
رخصت للي يرخص العمر بالسوم
أهل الصخا وسيوف نجد القواطيع
والله ما اتبعك الحسايف ولا اللوم
من يوم فقيتك بسبع التسابيع
أخذت عشر سنين كن السنه يوم
واليوم فارقتك فراق الجرابيع".

ولما أتم المطوع قصيدته، أخذ الأمير محمد بن عبد الرحمن النجر، ووضع فيه سبعة ريالات، وقال للمطوع: اذهب بنجرك وما فيه ولك فراق الجرابيع، فأخذه سعيدان وعاد إلى أهله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي