بلد جديد .. رئيس جديد .. وماء جديد
شهد القرن الـ20 استقلال غالبية الدول، بل ونشوء دول أخرى جديدة، كثير من هذه الدول حافظت على إرثها التاريخي واستعملته كحافز للتقدم وإطار للوحدة. سنغافورة ـــ على الجانب الآخر ـــ قامت بشيء مختلف تماما. عند استقلالها عن ماليزيا في عام 1965، كانت سنغافورة شيئا جديدا تماما. هذه الدولة/ المدينة التي أسسها فعليا البريطاني ستامفورد رافلز في 1819 كان عليها البدء من الصفر، إذ لم تكن تاريخيا أو حتى جغرافيا معروفة، كانت خليطا من الأعراق المختلفة في مدينة صيد بائسة.. باختصار، لم تكن سنغافورة شيئا مذكورا. البدء من الصفر هو تماما ما فعله رئيسها لي كوان يو ـــ أحد أعظم رجالات الدولة في العصر الحديث ـــ والذي كان يبلغ 45 من عمره عندما أصبح أول رئيس لهذا البلد. فقد بنى لي كوان يو جيشا جديدا من الصفر واقتصادا جديدا من الصفر بل حتى ماء جديدا من الصفر. قبل الحديث عن ماء سنغافورة الجديد، لا بد من فهم السياق التاريخي لاستقلال سنغافورة.
عند استقلالها عن ماليزيا كانت سنغافورة تحت حماية القوات البريطانية. لكن هذه القوات ستنسحب بعد ست سنوات فقط لتترك هذا البلد وحيدا وسط دول غير مستقرة سياسيا أو اقتصاديا. ففي ماليزيا ما زال كثير من الأصوات يطالب بإعادة ضم سنغافورة. أما إندونيسيا وفيتنام فكانتا تصارعان بعنف المد الشيوعي المتزايد في المنطقة. هذه الظروف حدت بكثيرين أن يشككوا في مستقبل هذه الدولة الوليدة حتى إن صحيفة "سيدني مورنينق هيرالد" الأسترالية ذكرت في عام 1965 بأن سنغافورة "دولة ليست قابلة للحياة".
كان على السنغافوريين، كما قال لي كوان يو في مذكراته لاحقا "أن يعتمدوا على أنفسهم وأن يكونوا شعبا صلبا وجادا"، وهذا ما حدث. لم يكن لسنغافورة مصادر مائية دائمة كالجارة ماليزيا. كان في إمكان السنغافوريين الاعتماد على مصدرهم الوحيد وهو الماء المستورد من ماليزيا في اتفاقية تم تجديدها في عام 2011. لكنهم اختاروا الاعتماد على أنفسهم في تحقيق أمنهم المائي. كان على السنغافوريين كما بنوا جيشا جديدا واقتصادا جديدا للاستقلال عن ماليزيا، أن يبنوا ماء جديدا أيضا للاستقلال عن ماليزيا.
قام السنغافوريون برسم استراتيجية متكاملة للمياه تقوم على ضمان استمرار تدفق المياه مع التقليل من الاعتماد على الماء المستورد من الجارة ماليزيا. استندت الاستراتيجية إلى ثلاث نقاط رئيسة: استخدام مياه الصرف المعالجة، الاستفادة من مياه الأمطار، التي تذهب للبحر، وأخيرا وبدرجة أقل تحلية مياه البحر. الجميل في هذه الاستراتيجية هو اعتمادها على مصادر مستدامة ومتوافرة بكثرة.
رأى السنغافوريون ومنذ وقت مبكر في مياه الصرف الصحي مصدر مياه متجددا ومهدرا في الوقت ذاته. قاموا بمعالجة مياه الصرف المهدرة على أربع خطوات. فبعد المعالجة التقليدية هناك التنقية العالية ثم أغشية التناضح العكسي فالتعقيم. بعد خطوات المعالجة الأربع أصبحت مياه الصرف المعالجة أشد نقاوة من مياه الشرب المقبلة من ماليزيا!
لضمان تقبل المجتمع لهذه النوعية من المياه، قاموا بحملات دعائية كثيرة وبدلا من استخدام الاسم (المقزز): مياه صرف معالجة، استخدموا مسمى "الماء الجديد" NEWater. حاليا يغطي الماء الجديد ثلث احتياج سنغافورة من المياه ويتوقع أن تزيد النسبة إلى 50 في المائة في عام 2060. يستخدم أغلبه في مجال الصناعة، الترفيه، إطفاء الحرائق.. نسبة قليلة لا تتعدى 6 في المائة تستخدم كمياه شرب ولكن بعد خلطها مع مياه الشرب المستوردة.
إضافة إلى الماء الجديد، فإن سنغافورة متقدمة في مجال "حصاد أو تجميع مياه الأمطار" بدلا من ذهابها إلى البحر. قامت الحكومة بعمل أنفاق وقنوات تجميع عملاقة لمياه الأمطار غطت ثلثي مساحة سنغافورة. وتستخدم هذه المياه بعد التعقيم والمعالجة كمياه شرب. في عام 2060، من المتوقع أن تكون 90 في المائة من مساحة سنغافورة معدة لاستقبال وتجميع مياه الأمطار، أي أن كل قطرة ماء تسقط على أرض سنغافورة ـــ تقريبا ـــ سيتم تجميعها والاستفادة منها.
وأخيرا هناك تحلية البحر، التي تغطي 10 في المائة فقط من الطلب المائي ويحاول السنغافوريون ـــ رغم تقدمهم في هذا المجال ـــ التقليل من الاعتماد عليها لتكلفتها العالية.
ختاما، رأينا في المقالات السبع الماضية صعوبة الوضع المائي في السعودية وكثرة التحديات الحالية والمستقبلية. الهدف من هذه المقالة والمقالات القادمة هو أخذ العبرة وشحذ الهمة بالنظر إلى دول ومدن كانت تعاني وضعا مائيا صعبا، ولكن تمكنت بالإصرار والتخطيط من تحويل تلك المعاناة إلى قصة نجاح. فنجاح سنغافورة يجب أن يدرس لكل الدول الفقيرة مائيا كالسعودية، ليس بالضرورة لاستجلاب ذات الفكرة بل ذات الإصرار وذات الأفكار الخلاقة للاعتماد على النفس وإيجاد الحلول بدلا من التذمر والتعذر بأعذار أكل عليها الدهر وشرب.