دورة اقتصادية.. أم انكماش؟
رغم كل ما يحيط بالاقتصاد العالمي من تنبؤات سيئة مبنية في أساسها على تباطؤ النمو في كثير من اقتصادات الدول، وتردي أسعار النفط التي بدأت سلسلة من التراجعات منذ منتصف عام 2014 وما زالت مستمرة مع تباين صارخ في توقعات بيوت الخبرة النفطية والمحللين العالميين، فمنهم من يجزم أن الأسعار ستتعافى عام 2017 على أبعد تقدير، وهناك فريق آخر يرى العكس تماما “ربما تكون نظرة تشاؤمية”، حيث يعتقدون أن الأسعار مرشحة إلى مزيد من التدهور، وأنها “أي أسعار النفط” ستهوي إلى ما دون 20 دولارا للبرميل لا محالة. لكن لا يغيب عن البال أن كبار المنتجين يجرون حاليا محادثات جادة لتجميد الإنتاج، وبطبيعة الحال فإن مثل هذا القرار سيؤثر إيجابا في الأسعار.
الأمر لا يتوقف عند هذا فحسب، فهناك على الضفة الأخرى أحداث مؤلمة في سوق العملات هي في مجرياتها حرب عملات، بعضها يجري في الخفاء، وبعضها الآخر يجري في العلن، فبعد أن أعلنت جانيت يلين رئيسة “الاحتياطي الفيدرالي” الأمريكي زيادة سعر الفائدة بنسبة 25 نقطة أساس ليصل سعر الفائدة الأمريكي إلى نصف في المائة، ليأتي هذا القرار في توقيت سيئ للاقتصادات الناشئة، في المقابل وقع اليوان الصيني في مطب عميق عندما أقدمت بكين على خفض قيمة عملتها فوقعت في أزمة أشد تأثيرا، فأعادت حساباتها وراجعت تبعات قرارها ومنها هروب رؤوس الأموال، فتداركت الوضع لترفع قيمة اليوان، اليورو والين تراجعا بنحو 28 في المائة، و38 في المائة على الترتيب، ومن المرجح أن يستمر الوضع المضطرب للعملة الأوروبية الموحدة والين الياباني خلال العام الجاري.
ومع مخاوف البنوك المركزية والمستثمرين في العملات ظهر بريق الذهب لترتفع قيمته تباعا ويزداد الإقبال عليه كملاذ آمن عندما تشتد الأزمات ولا تلوح في الأفق بوادر لاستقرار العملات.
من المفروض أن تلعب السياسات النقدية العالمية عبر التحكم في أسعار الفائدة أو من خلال سياسة التيسير الكمي دورا مفصليا في التخفيف من حدة الأزمات ومواجهة الركود والكساد، وقد حدث هذا عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، لكن الفائدة السلبية جاءت لتزيد حدة الأوضاع، الأمر الذي جعل الثلاثة الكبار “الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، البنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي الياباني” أمام مأزق كبير شكل عقبات أكبر وضعت الاقتصاد العالمي في آلام مخاض شديدة، ليبقى شبح الانكماش يطارد الحكومات والبنوك المركزية، وفي حين رفع “الفيدرالي الأمريكي” سعر الفائدة أخيرا بشكل طفيف، إلا أن نظيريه “الأوروبي” و”الياباني” اتخذا طريقا معاكسا بتبني معدلات فائدة سلبية لا يمكن أن تحقق النمو المطلوب وربما يكون ذلك مؤشرا قويا على أن السياسات النقدية فقدت أدواتها المؤثرة ولم تعد قادرة على الخروج من الأزمة الاقتصادية، فالمسكنات الوقتية لم تعد تجدي نفعا.
لا شك أن الدولار “سيد العملات” وتأثيره في التجارة الدولية والاقتصاد العالمي يعطي “الفيدرالي الأمريكي” دور المتحكم الأساس في الجزء الأكبر من الاحتياطيات المالية العالمية، وهو دور ليس باستطاعة المركزي الأوروبي و”المركزي الياباني” الوصول إليه.
قبل أسبوع وجه حكماء الاقتصاد الألماني نقدا حادا للسياسة المالية المتساهلة للبنك المركزي الأوروبي بسبب التدفقات المالية الأخيرة للبنك في الأسواق المالية، الأمر الذي جعل هؤلاء الحكماء يبدون تخوفهم من خطر حدوث انكماش “أي حدوث دوامة من انخفاض الأسعار؛ وهو ما يمكن أن يخنق الاقتصاد”.
ما حصل ويحصل حتى الآن لم يقع منذ عقد، فهل نحن أمام دورة اقتصادية، أم انكماش؟
تختلف الرؤى حيال هذا التساؤل، قد تكون هذه أو ذاك، إلا أنه لا يخفى على المتابع أن هذا الصراع العنيف بين العملات ستكون له تداعياته وتأثيراته في المستقبل أكثر منه في الحاضر.
في إصدار صحيفة “الاقتصادية” السنوي “الاقتصاد العالمي 2016” سيكون من المهم تناول مستجدات اقتصادية غير عادية في السعودية ودول الخليج.
قوبل إنشاء مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الذي يقوده الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، بتفاؤل كبير من جميع شرائح المجتمع، بل حتى على المستوى الخارجي، فهذا المجلس في حد ذاته تجربة فريدة في المملكة والشرق الأوسط، حيث يتولى المجلس ـــ بإشراف مباشر ومتابعة دقيقة من رئيسه ـــ مرحلة تحول اقتصادي كبرى غير مسبوقة، وهو يتبنى اليوم قرارات مصيرية ذات تأثيرات عميقة في بنية الاقتصاد السعودي وهيكلته، ورئيس المجلس الأمير محمد بن سلمان، عقد العزم على مواجهة التحديات وتنويع حقيقي لاقتصاد البلد، وأن يتم إحداث تحول حقيقي في اقتصاد المملكة من خلال خطط وآليات برزت خطوطها العريضة في مشروع التحول الوطني. ومما يحسب لهذا المجلس، وبشكل يعكس بوضوح جدية توجهاته وطموحاته الكبيرة، أنه بدأ بنفسه، حيث خصص اجتماعات لمراجعة أعماله والقرارات التي اتخذها في عامه الأول، قبل أن يبدأ بمراقبة الجهات الأخرى ومحاسبة المسؤولين، ليؤكد أنه لا وقت للانتظار والركون إلى ما تحقق في سنوات مضت بمصدر واحد للدخل، وسيمضي المجلس قدما في سبيل إصلاح الاقتصاد السعودي وثقافة العمل فيه بما يعود بمنافع متنوعة على الوطن والمواطن.
بوجود مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية وما حدده من مسارات سيتحقق ما تسعى إليه السعودية من عدم الاعتماد على النفط، وستنمو الصناعات التحويلية غير النفطية، إلى جانب جذب شركات عالمية كبرى يستفاد من تقنياتها الصناعية والفنية والإنتاجية محليا، وتوفير كثير من الوظائف للمواطنين، على أن يتزامن ذلك مع إطلاق قدرات القطاع الخاص ودعم برامج الشراكة والتخصيص والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، فضلا عن تهيئة بيئة الأعمال من خلال إصلاحات تشريعية وإجرائية عديدة.
خليجيا.. من الواضح جليا أن دول مجلس التعاون دخلت في مرحلة جديدة لا مجال فيها للعودة إلى ما مضى، فهناك سياسات مالية جديدة تواكب المتغيرات لتحفيز النمو في كل القطاعات الإنتاجية غير النفطية وجذب الاستثمارات العالمية والتوسع في التصنيع وتجارة الجملة والتجزئة والخدمات المالية والسياحية لتشكل محورا رئيسا لاقتصاد دول الخليج مجتمعة.