«وليام فوكنر» .. أمريكي حارب عنصرية مجتمعه تجاه السود
لم يجد الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطاب له بمدينة فيلادلفيا، حمل عنوان "اتحاد أكثر كمالاً" خلال حملته الانتخابية عام 2008 عند حديثه عن المسألة العرقية في الحياة الأمريكية، أفضل من رواية "قداس لراهبة" لوليام فوكنر، ليقتبس منه واحدة من عباراته الساحرة "الماضي لا يموت، بل إنه ليس حتى ماضياً".
وتنقل الناقدة "منى شكري" عن فوكنر قوله خلال مقابلة له عام 1958: "يكون الكاتب الشاب أحمق إذا اتبعَ نظرية.. علِّم نفسك من خلال أخطائك الخاصة، الناس يتعلمون من أخطائهم فقط. والفنان الجيد يعتقد أن ليس هناك أحد جيدا بما فيه الكفاية كي يمنحه المشورة".
بهذه الروح نجحت أعمال الأمريكي وليام فوكنر في تخليده واحداً من الملهمين لصخب الرواية الحديثة؛ من خلال ابتكاراته اللغوية وقلبه للبنى التقليدية للسرد، وبراعته في تقنيات المونولوج الداخلي مخترعاً نظاماً عالمياً للرواية في تنظيم الحبكة، والزمن المتشابك، وطريقته في توليد الأحداث، كما يقول الروائي البيروفي ماريو يوسا.
ولد ويليام كتبيرت فوكنر عام 1897 في مدينة نيو ألباني بولاية ميسيسبي الجنوبية؛ حيث قضى معظم حياته، واستلهم منها معظم أعماله، وكمعظم المبدعين القلقين لم تكن مسيرته التعليمية مثالية سواء في المدرسة أم الجامعة، حيث التحق لفترة وجيزة بجامعة المسيسبي، وخرج منها بتحصيل متوسط باستثناء مادة اللغة الإنجليزية.
انسحب تمرد الشباب، لدى فوكنر على معظم مناحي حياته، فأطلق لحيته مرتدياً ملابس غريبة بنظارة أحادية العدسات، وهو يتمشى حافي القدمين في الشوارع. رغم ذلك كان فوكنر الفتى قارئاً نهماً، إضافة إلى شغفه بالتأليف، فكتب آنذاك قصصاً للأطفال ودواوين شعر ومسرحية واحدة على الأقل كان يوزعها على أصدقائه. كما علم نفسه الفرنسية ليطلع على عالم بودلير وفيرلين ومالارميه.
حياته الحقيقية مع الأدب بدأها بكتابة الشعر وأثمرت عن ديوانين، وفي عام 1924 بعد سفره إلى نيو أوريانز اختلط بالوسط الأدبي، ومتأثراً بالروائي شيروود أندرسون، أحد رواد مدرسة الواقعية الأمريكية، اتجه إلى كتابة النثر، فكانت بدايته مع روايتي "جعالة الجندي" و"البعوض" عامي 1926 و1927 اللتين لم يكتب لهما النجاح، لكن تلك الفترة وتحديداً عام 1929 الذي تزوج فيه بحبيبة طفولته إستيلا أولدهام شهدت ميلاد أشهر أعماله وأكثرها صعوبة "الصخب والعنف" رواية الروائيين كما يصفها كثير من النقاد، وفيها يظهر تمكنه المذهل من أدواته وتواصله مع تقنيات الحداثة التي شاعت آنذاك في الأدب والفن وخاصة مع جيمس جويس، وفضلاً عن كتاباته الروائية اتجه فوكنر للعمل كاتباً في هوليوود بين عامي 1932 و1945، وسيظهر التأثير السينمائي جلياً في أعماله بفعل هذه التجربة الغنية.
استعمل فوكنر بيئته المحلية في حكاياته إلى أبعد مدى للوصول إلى أدب إنساني عابر للجغرافيا، وكان القراء على موعد في روايته "سارتوريس" عام 1928 مع مقاطعة "يوكناباتوفا" التي ستظل ملازمة لبيئاته السردية في معظم أعماله اللاحقة. من علاماته البارزة ثلاثيته الضخمة: "القرية" (1940)، و"البلدة" (1957) و"البيت" (1959)، وقد وظف فيها خلاصة خبراته وبراعته الوصفية في تقديم صورة مختلطة حائرة للجنوب الأمريكي بين النظرة المأساوية والعلاقات الدافئة وروح الفكاهة، وهو يتتبع صعود آل سنوبس "Snopes" في السلم الاجتماعي. ورغم تمسكه بتقاليد وقيم الجنوب إلى درجة التزمت أحياناً، إلا أنه أظهر ليبرالية لافتة في تطرقه لموضوع العلاقة بين الأعراق، على الرغم من عنصرية مجتمعه تجاه السود.
خلال مسيرته التي أثمرت 19 رواية وأكثر من 80 قصة تنقل فوكنر بين الأشكال الجديدة في تقنيات السرد التي كان مولعاً بتجريبها في أعماله؛ ففي روايته "بينما أرقد في حضرة الموت" (1930) يركز على تيار الوعي، ليعود بقارئه في "أبشالوم أبشالوم!" (1936) لأجواء التعقيد، لتتوالى رواياته: "الملاذ" (1931) و"نور في آب" (1932)، و"حكاية خرافية" (1954)، وهي أطول رواياته واستغرقته عشر سنوات لكتابتها، فضلاً عن عدد كبير من القصص القصيرة أو "الحكايات" مثل: "الدب" و"وردة لإميلي"، لتكون خاتمة أعماله مع "اللصوص" التي نشرت بعد وفاته.
وعلى الرغم من إنجازاته في عالم الرواية والقصة، إلا أنه لم تكتب الشهرة له إلا بعد أن حاز جائزة نوبل للآداب عام 1949، وذلك بسبب المضمون الصادم لأعماله التي تركز على العنف والشذوذ والجريمة، كما يظهر في ردود الأفعال على روايته "الملاذ" التي نالها الكثير من تجريح أقلام النقاد، لكن فوكنر تمكن في النهاية من انتزاع اعترافهم بأنه لم يكن يفعل سوى تسليط الضوء على بشاعة واقع المجتمع في مقابل قيم الجمال التي كان يدعو لها مثل: الحب والشرف والشفقة والكبرياء والتضحية.
عام 1951 حصل فوكنر على جائزة الكتاب الوطنية، وجائزة بولتيزر مرتين عام 1959 وعام 1963 بعد مضي سنة على وفاته عن "اللصوص"، وبين عامي 1957 و1958، اختار أن يتواصل مع الكتّاب الشباب من خلال عمله كاتبًا زائرًا في جامعة فيرجينيا قريباً من أولاده وأحفاده.
سيظل فوكنر، تختم الناقدة شكري، بدون شك من أهم المؤثرين في الأدب الحديث، كما اعترف بذلك روائيون وكتاب كبار أمثال: خوان رولفو، مالكولم لاوري، نورمان ميلر، جويس كارولاوتس، ميشيل فوكو وغيرهم. ويبدو صاحب "الصخب والعنف"، ملهماً بشكل خاص لمعظم روائيي أمريكا اللاتينية، كما نلمس لدى جابرييل جارسيا ماركيز؛ فقرية "ماكوندو" الخيالية في "100 عام من العزلة" تذكرنا بمقاطعة "يوكناباتوفا" رمز الجنوب الأمريكي لدى فوكنر؛ يقول ماركيز: "إذا كانت رواياتي جيدة، فذلك لسبب واحد هو أنني حاولت أن أتجاوز فوكنر في كتابة ما هو مستحيل وتقديم عوالم وانفعالات، يستحيل أن تقدمها الكتابة والكلمات مثله، ولكن لم أستطع أن أتجاوز فوكنر أبداً، إلا أنني اقتربت منه".