عودة المحارب القديم
في الجزء الشمالي من سور جدة القديمة، المعروف باسم "حارة البحر"، يتشارك السكان كل شيء، قصص البحر والحج والهموم والأفراح ويرضعون حب الاتحاد من أثداء الأمهات، وفي صفوف الدراسة الأولى جلس عن يمينه عبد المجيد بكر وعن يساره عبد الرزاق بكر، وأمامه عبد الفتاح ناظر، فلم تترك له الأقدار خيارا غير الانضمام لقافلة العشاق المغرمين بحب هذا الأصفر العظيم.
أطبق الاتحاد حصاره وغرامه ومغرياته على الشاب الجداوي اليافع لاحقا، حتى عندما قرر التقدم لخطبة الفتاة التي أحبها واختارها شريكة دروبه في الحياة، كان والدها عبد الرحمن الملا أشهر من رأس الاتحاد في تلك الفترة، تزوجا وأصبح الاتحاد أيضا شريك سريره وغفوته ومنامه وصحوه، أينما ولّى وجهه، وجد الاتحاد في طريقه فأصبح قبلة قلبه ونور عينه وشريك روحه.
أحمد عمر مسعود.. محارب قديم، لعب للاتحاد جناحا أيسر وحقق معه بطولتين من وسط الميدان، سافر للدراسة ثم عاد رئيسا للأصفر وحقق معه تسع بطولات في كرة القدم، وواحدة قارية في كرة السلة، قلت له: إلى أي درجة بلغ بك العشق؟ أجاب: أعلى درجة العشق الهيام، وأنا هائم بالإتي.
في ذاكرة مسعود، جرح وأفراح صنعها المعشوق الأصفر، فأما الجرح الذي لا ينساه، عندما تقدم بعض لاعبي الاتحاد بشكوى رسمية ضده أمام الأمير فيصل بن فهد، بسبب عقوبات انضباطية فرضها عليهم، كلما تذكر الحادثة، يشعر بقطرات من الماء تتكون في مآقيه، ووخزة دبوس في الجزء الأيسر من قفصه الصدري، وأما أجمل الأفراح فتلك التي ابتعدت وعادت، وعنها يقول: في نهائي إحدى الكؤوس كان الاتحاد يتقدم حتى الدقائق الثلاث الأخيرة على النصر بهدف، جاء مدير الملعب وأخذني لصعود المنصة، ويكمل: بعد أن وقعت قدمي على الدرجة الرابعة اعتلى ماجد عبدالله الجميع وسجل التعادل، فلم أبارح الدرجة الرابعة طوال الإضافي والترجيحيات، ويتابع: علمتني تلك الدقائق أهم الدروس في كرة القدم، انتصرنا في النهاية، وكانت فرحتي لا تشابه أي فرحة أخرى رغم تعدد الإنجازات في مسيرتي.
.. المحارب القديم يعود اليوم للاتحاد والاتحاد لم يفارقه، أول رسالة تلقاها على هاتفه بعد تكليفه بالرئاسة كانت من مشجع قديم كتب له: "مجنون يا مسعود، تغامر بتاريخك، مجنون أنت، فالاتحاد ليس ما تعرف سابقا"، رد عليه: "جزاك الله خيرا، لا أحد يعرف الاتحاد مثلي".
قلت للرئيس القديم الجديد: معه حق، أتغامر بكل هذا التاريخ العريض، في ظروف مستحيلة؟ تنهد وابتسم وقال: ثقة الاتحاديين فيّ تستحق المغامرة، أثق بهم أيضا وأثق بالاتحاد، وسنعبر الأزمات إلى مجد جديد، وحتى لو خسرت، سأنام قرير العين لأني لم أتراجع عن تلبية نداء العشق، ويتابع: "لا يمكن أن تستوعب ماذا يعني لي الاتحاد وللعشاق القدماء تحديدا، لا تتحدث عن التاريخ والمغامرة به، فأنا بلا تاريخ بدون الاتحاد".
سألته: ماذا ستفعل أمام هذه التكتلات المتحزبة في الاتحاد؟ قال: سأردد دائما الآية الكريمة "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ"، وأكمل: الصبر.. الصبر مفتاح الفرج، وإحسان الظن بالناس حتى يثبت العكس، منهجي في كل شؤون حياتي.
أحمد عمر مسعود، رجل لم يعرف الحياة بدون الاتحاد، عاشق متيم، وتاريخ مجيد لرجل نقي السريرة صادق اللسان، نأى بنفسه عن التكتلات الصفراء التي مزقت العميد، لم يصنف يوما مع جهة ضد أخرى، كلما سألته عن الاتحاد في مقابلة تلفزيونية أو ودية، أجاب بكل هدوء دون أن يستهدف أحدا، ومباشرة دون الاستعانة بأحد فالاتحاد يعيش بين أضلاعه ويحفظه عن ظهر قلب، اليوم يجمع كل تاريخه ويلقيه في حضن الاتحاد، ويبتسم.