أزمة المياه تجبر العالم تدريجيا على «التسعير المختلف»
في ظل تحديات شح المياه في العالم، يؤكد استشاريون عالميون لـ"الاقتصادية" أن مناطق عدة أبرزها الشرق الأوسط ستواجه خطرا متناميا يستدعي التوجه ضرورة تطبيق نظرية جديدة لترشيد الاستهلاك عبر ما يسمى "التسعير المختلف".
وقال لـ"الاقتصادية " مسؤولون في مؤسسات دولية أبرزها البنك الدولي إن مشكلة نقص المياه حول العالم تستوجب حلولا غير تقليدية بعد أن باتت المشكلة في الوقت الحالي تشكل تحديا خطيرا للأمن والسلم الدوليين، وأضحت تؤثر بشكل ملحوظ على معدلات النمو الاقتصادي في عديد من البلدان.
وتشير بعض الدراسات الحديثة للبنك الدولي، إلى أن جزءا كبيرا من أزمة الهجرة الدولية تعود في جذورها إلى مشكلة المياه ونقصها، ويحذر عدد من خبراء البنك الدولي من أن ندرة المياه ستوجه ضربة مؤلمة لاقتصادات الشرق الأوسط ووسط آسيا وإفريقيا بحلول منتصف القرن الحالي، إذ يمكن أن يؤدي نقص المياه إلى فقدان الناتج المحلي نحو 14 في المائة من قيمته في الشرق الأوسط، و12 في المائة في بلدان الساحل الإفريقي، و11 في المائة في وسط آسيا، و7 في المائة في شرق آسيا، حيث سيبلغ مستوى تراجع الناتج المحلي الإجمالي قرابة 11 في المائة في المتوسط في تلك المجموعة من البلدان.
وأوضح لـ "الاقتصادية"، الدكتور إس دبليو بيلوف الاستشاري في البنك الدولي أن مشكلة المياه ستصبح أم المشاكل في البلدان النامية ابتداء من النصف الثاني من القرن الحالي، معللا ذلك بأن هناك مزيجا من العوامل حيث يتداخل التأثير السلبي للتغير المناخي مع زيادة الطلب الناجم عن تزايد عدد السكان، ونمو المدن والحاجة إلى مزيد من المنتجات الزراعية.
ولكن إلى أي مدى يمكن للأرقام أن تكشف فداحة مشكلة نقص المياه في العالم؟ تشير بيانات المعهد الدولي للمياه في استكهولم إلى أن 633 مليون شخص أي بمعدل واحد من كل عشرة أشخاص على وجه الأرض ليس لديه فرصة للحصول على مياه نظيفة، وثلث المدارس في العالم لا تجد فيه مياه صالحة للشرب أو كافية للتلاميذ.
أما في البلدان ذات الدخل المنخفض أو المتوسط فإن ثلث المؤسسات الصحية تفتقد المياه، ويخسر الاقتصاد العالمي سنويا 260 مليار دولار من جراء عدم توافر المياه النظيفة أو عدم وجود كميات كافية من المياه، ويمكن أن يؤدي توفير مياه صالحة للشرب إلى إضافة 32 مليار دولار للاقتصاد العالمي سنويا، وتبلغ التكلفة الاقتصادية للوقت الضائع للحصول على المياه نحو 24 مليار دولار سنويا.
ويحتاج الاقتصاد العالمي تريليون دولار لحل مشكلة المياه، أما معدل العائد المتحقق من كل دولار يستثمر في مجال المياه والصرف الصحي فيراوح بين 3 و34 دولارا، أي أن توفير تريليون دولار لحل مشكلة المياه في العالم يمكن أن يعود على الاقتصاد العالمي بعائد يراوح بين 3 و34 تريليون دولار.
ويعتقد الدكتور سام هودجز أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة كامبريدج أن القطاع الزراعي في البلدان النامية تحديدا يتحمل الجزء الأكبر من مشكلة المياه في العالم.
وأضاف لـ"الاقتصادية"، أن القطاع الزراعي هو المستهلك الأكبر للمياه في العالم، وعلى الرغم من ذلك سنجد أن المزارعين هم أكثر الفئات مقاومة لقضية رفع أسعار المياه، مشيرا إلى أن هناك حاجة ماسة لتغيير أساليب الري السائدة في بلدان العالم الثالث، إذ إنها تؤدي إلى إهدار شديد للمياه.
وأشار هودجز إلى أنه على الرغم من أن بعض البلدان، خاصة التي تنتج محاصيل للتصدير، ونتيجة للأرباح التي حققتها ورغبتها في خفض تكلفة الإنتاج، قامت بتغير شبكات الري لديها، إلا أن الاتجاه الأغلب لدى المزارعين لا يزال يعتمد على طرق الري التقليدية المهدرة للمياه.
الدكتورة إيزابيلا هاردمان أستاذة التجارة الدولية والاستشارية في "صندوق النقد" من أشد الداعمين لنظرية "التسعير المختلف"، وتوضح لـ "الاقتصادية"، أنه من منظور اقتصادي محض، فإنه لا يمكن لنا أن نسعر المياه بشكل متساو على منتجي السلع التي يتم تصديرها وبين منتجي السلع التي يتم استهلاكها محليا، كما أن بعض السلع الصناعية شديدة الاستهلاك للمياه مثل منتجات الجلود، تستخدم المياه بكميات مختلفة في المراحل المختلفة من العملية الإنتاجية، ومن ثم يجب تسعير المياه بشكل مختلف في كل مرحلة.
وتستدرك قائلة: "مثلا صناعة الجلود تستهلاك كميات كبيرة من المياه في عملية تنظيف الجلود وصباغتها، وهنا يمكن تسعير المياه بشكل مختلف عن المياه المستخدمة في عملية تنظيف المصنع مثلا، أو المستخدمة في دورات المياه".
وتعتبر الدكتورة إيزابيلا أن نظرية "التسعير المختلف" ستؤدي إلى وعي أكبر من قبل المزارعين والصناعات كثيفة الاستهلاك للمياه في فهم القيمة الحقيقية للمياه وضرورة استهلاكها بشكل رشيد.
ومع هذا، يواجه هذا المنهج معارضة شديدة من قبل بعض الخبراء باعتباره مدمرا للقدرات الاقتصادية للأسواق الناشئة، ويحذر هنري ليتس الباحث الاقتصادي من مخاطر هذا المنطق على الصناعات الناشئة في البلدان النامية.
ويشير لـ "الاقتصادية"، إلى أن نظرية "التسعير المختلف" ستؤدي إلى رفع التكلفة الإنتاجية بشكل مبالغ فيه في عديد من منتجات التصدير في البلدان النامية، وتلك المنتجات هي المصدر الرئيسي للعملة الصعبة، وتقوم بدور محوري في جذب القاطرة الاقتصادية في تلك البلدان، وتوافر لها القدرات المالية التي تسمح في جزء منها بتطوير شبكة المياه في الدولة وتحديثها، ومن ثم ارتفاع تكلفة منتجات التصدير سيؤدي إلى انخفاضها ومن ثم تراجع الناتج المحلي الإجمالي ويضعف من قدرة الحكومات في البلدان النامية على إحداث عملية التطوير اللازمة للبنية الأساسية، ومن بينها شبكة المياه والصرف الصحي.
وبغض النظر عن مدى نجاح نظرية "التسعير المختلف" من أن تجد إمكانية في التطبيق على أرض الواقع أم لا، إلا أنه من المؤكد أن هناك دعوات بدت تحظى بدعم وتأييد متزايد من قبل المؤسسات المالية الدولية، بضرورة إعادة النظر في أساليب تسعير المياه في المجتمع وتحديدا في الاقتصادات الناشئة.
وعلى الرغم من أن هناك ما يمكن وصفه بمشاكل "ثقافية" متعلقة بأن يتم تسعير المياه وفقا للعرض والطلب، وتحقيق أرباح منها حتى في الدول التي يقوم القطاع الخاص بدور قوي في النظام الاقتصادي مثل أوروبا الغربية على سبيل المثال، إلا أن هذا لا ينفي أن كلا من صندوق النقد والبنك الدولي يدفعان تدريجيا في هذا الاتجاه.
الدكتور تيم أليكس الاستشاري السابق في صندوق النقد وأحد المهتمين بقضايا المياه في العالم يقول لـ "الاقتصادية"، إنه في الواقع العملي وفي بعض المناطق في إفريقيا وجنوب شرق آسيا يدفع الناس للحصول على المياه من المزودين المحليين، وبعض الدراسات التي قمنا بها تشير إلى أنهم يدفعون عشرة أضعاف ما يدفعه الأشخاص المعتمدين على الشبكات المحلية الحكومية، وهذا يكشف عن وجود استعداد لدى البعض للقبول بتسعير المياه وفقا للعرض والطلب.
ويضيف أليكس أن المياه يجب اعتبارها سلعة، ومن ثم إخضاعها مثل جميع السلع لقانون العرض والطلب، لأن ذلك سيضمن توفير موارد مالية لتطوير شبكات المياه والصرف الصحي، وتحديث وتوسيع نطاق محطات التحلية، وهذا سيضمن انخفاض الأسعار على الأمد الطويل مع تحقيق توازن بين العرض والطلب.
ومع هذا، فإن الاستشاري السابق في صندوق النقد يقر بصعوبة تحقيق ذلك في الأجل المنظور، نظرا لأن المياه سلعة ترتبط مباشرة بحياة الإنسان وبقائه، وهناك العديد من الصعوبات في الوقت الراهن تتعلق بموضوع "خصخصة" الموارد المائية، إذ لا توجد آلية واضحة ومضمونة - حتى في ظل الشراكة بين القطاع الخاص والعام – تضمن توفير الاحتياجات المائية للفئات الدنيا بأسعار زهيدة في متناول قدراتهم المالية.
في المقابل يعتبر البعض أن قضية نقص مصادر المياه الصالحة للشرب، يمكن الحد منها نسبيا عبر اتخاذ تدابير أكثر فاعلية فيما يعرف "بإدارة المياه"، فقد أشارت دراسات أعدها المعهد الدولي للمياه في استكهولم إلى أن نحو 20 في المائة من المياه الصالحة للشرب يتم اهدارها جراء عدم تحديث شبكات نقل وتوزيع المياه.
وفي ضوء العجز المالي الذي ينتاب العديد من بلدان العالم الثالث، وعدم قدرتها على توفير الاحتياجات المالية اللازمة لتحديث شبكات نقل وتوزيع المياه محليا، فإن إدماج القطاع الخاص في تلك العملية، والسماح له بالمشاركة في عملية تطوير وتجديد تلك الشبكات، يمكن أن يمثل بداية أولية لجعل القطاع الخاص مساهما حقيقيا في حل أزمة المياه المتفاقمة.
ولا ينفي خبراء المياه أن لأزمة نقص مياه الشرب بعد دولي لا يفرق بين دول الجنوب النامية والشمال المتقدمة، حيث أدى تفاقم الأزمة إلى تضرر دول لم تعرف تلك المشكلة من قبل مثل بريطانيا على سبيل المثال، ومع هذا فإن المشكلة تتباين من إقليم إلى آخر ومن دولة إلى أخرى، وهو ما يضع عالمنا العربي وتحديدا منطقة الخليج العربي في عين العاصفة.
وتشير الأرقام الخاصة بالعالم العربي إلى أنه يضم عشر مساحة اليابسة، ومع هذا يتصف بشح شديد في مصادر المياه الصالحة للشرب، إذ لا يحتوي إلا على أقل من 1 في المائة من كل الجريان السطحي للمياه، وقرابة 2 في المائة من إجمالي الأمطار في العالم.
وحول وضع البلدان الخليجية المائي وتحديدا السعودية يقول لـ "الاقتصادية"، دان ربينسون الخبير المائي إن البلدان الخليجية اتبعت في أوقات مختلفة سياسات مختلفة للتعامل مع النقص الحاد للمياه في تلك المنطقة من العالم، مضيفا أن الاستراتيجية التي تتبعها دول الخليج وتحديدا السعودية تمثل حاليا الحل الأكثر حداثة وتطورا في مواجهة أزمة المياه.
وأشار ربينسون إلى أن الدول الخليجية تستثمر بشكل مكثف في محطات تحلية المياه، والسعودية تحتل المرتبة الأولى بالنسبة للاستثمارات الخليجية في هذا المجال، ويتوقع أن تنتهي من استكمال 16 محطة تحلية مياه تعمل بالطاقة النظيفة بحلول عام 2030 لتضمن بذلك توفير مياه نظيفة صالحة للشرب وبأسعار زهيدة للمواطنين لعدة عقود مقبلة.