المفاهيم السليمة .. والاستراتيجيات الفعالة
المفاهيم ببساطة مجموعة من الأفكار التي تشكلت حيال قضية أو مسألة معينة، ويقول "قلادة" في تعريفه للمفاهيم "المفاهيم أنظمة معقدة من الأفكار الأكثر تجريدا، التي يمكن بناؤها فقط من خبرات متعاقبة في مختلف المجالات"، وكلنا عندما نسمع أحدا يتحدث عن موضوع أو قضية أو مجال معين نسأله ما مفهومه لذلك.
لنأخذ مثالا لو سألنا أحدهم ما مفهومك للأمن الوظيفي، سيقول الأمن الوظيفي أن تعمل في مؤسسة كبيرة من الصعب أن تغلق أو تفصلك من العمل، ولذلك تجده يبحث بجد واجتهاد للعمل في الأجهزة الحكومية لتحقيق الأمن الوظيفي الذي ينشده، وعادة ما تجده لا يحرص على التعلم أو التدرب أو القراءة أو الاحتكاك بالخبرات، بل عادة ما تجده يبحث عن العلاقات والشللية وما يضمن له الحصول على المكتسبات بالأقدمية والعلاقات الشخصية.
ولو سألنا السؤال ذاته إلى آخر لقال إن الأمن الوظيفي هو في ذاتك بما تمتلك من مؤهلات ومعارف ومهارات وخبرات وكفاءة وقدرة على الإنتاج، ولذلك تجده يحرص ويسعى للتعلم والتدرب والقراءة والمشاركة في المؤتمرات والمنتديات والاحتكاك بالخبرات ليصبح أكثر تأهيلا ومعرفة ومهارة وخبرة، ليحصل على الوظائف بسهولة ويترقى في درجاتها ويتنقل بين المنشآت كيفما شاء لأن الوظائف تطلبه وليس هو من يطلبها.
وبالتالي نحن نقف أمام مفهومين للأمن الوظيفي أحدهما يقول إنه يتعلق بالجهة التي يعمل فيها الموظف، والآخر يقول إنه يتعلق بالموظف ذاته، وكل مفهوم يجعل معتنقه يسير في مسار استراتيجي مختلف عن الآخر، وبكل تأكيد ما سيجده كل منهما في تجربته ومسيرة حياته وما يحدث له وللآخرين سيجعله أكثر قناعة بمفهومه أو أنه يراجعه ويعدله، وحال تعديله سيتخذ مسارا استراتيجيا آخر.
القيم وهي مجموعة المبادئ والتعاليم والضوابط الأخلاقية التي تحدد سلوك الفرد، وترسم له الطريق السليم الذي يقوده إلى أداء واجباته الحياتية ودوره في المجتمع الذي ينتمي إليه، وهي إلى جانب ذلك السياج المنيع الذي يحميه من الوقوع في الذنب، ويحول بينه وبين ارتكاب أي عمل يخالف ضميره، أو يتنافى مع مبادئه وأخلاقه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الكرم، والعطاء، والتسامح، والاحترام، والوفاء، والصدق، والإيثار، والتعاون، والقوة.
لا شك أن القيم تلعب دورا كبيرا في تحديد مساراتنا الاستراتيجية لدورها في تحديد سلوكياتنا وأداء واجباتنا لكونها مرجعية حكمنا لما هو فاضل وما هو منكر، وما هو صحيح وما هو خطأ.
ورغم أهمية القيم وأثرها في حياتنا إلا أن مفاهيم هذه القيم تلعب الدور الأكبر في تأثيرها سلبا أو إيجابا في حياتنا، إذ إن مفهوم القيمة أحيانا يجعلها مفيدة وأحيانا أخرى يجعلها ضارة، بل وتتحول من قيمة إيجابية إلى قيمة سلبية تجب معالجتها. لنأخذ قيمة الكرم على سبيل المثال، حيث يفهمها بعضهم أنها تتعلق بالطعام وكثرته بما يتناسب ومكانة الضيف حتى تحول الكرم إلى إسراف بغيض مرفوض وآثم فاعله، ولقد رأينا مشاهد كثيرة تبين أن الكرم تحول إلى أداة تفاخر وتكبر على الآخرين، إضافة إلى كونه إسرافا وتبذيرا.
بعضهم الآخر يفهم الكرم على أنه كرم الحديث واللقاء والطعام وقضاء حاجات الناس دون مَن وَلا أَذى، ولذلك تجدهم لا يبذرون في الطعام، ولا يتفاخرون أمام الضيف أو أمام العامة بنشر المقاطع، ويقضون حاجات الناس وييسرون أمورهم فيجدون منهم الحب والرضا والدعاء. ما علاقة المفاهيم بالاستراتيجيات الفعالة؟ أذكر أن أحد الأصدقاء قال لي أريد أن أضع لي خطة استراتيجية لأحقق نجاحات تراكمية، أريد أن أحدد مسارات أعمل عليها لأحقق إنجازات كبيرة بمرور الوقت، وقلت له ما أفهمه أن التخطيط الاستراتيجي خاص بالمنشآت لأنه يتطلب جهودا تحليلية وتشخيصية للمنشأة ومنافسيها وزبائنها والبيئة التي يعمل فيها، وهي جهود تعتمد على دراسات علمية دقيقة وحديثة وشاملة ومن ثم تتشكل فرق عمل لمرحلة التفكير الاستراتيجي لتحديد المسارات الاستراتيجية وبرامج السير فيها باستخدام الميزات النسبية والأسلحة الاستراتيجية التي تتوافر للمنشأة، كما تتطلب فرق عمل تنفيذية وأخرى رقابية تقيس مدى التقدم في الإنجازات ومدى الانحرافات وكيفية معالجتها، إلى غير ذلك من الأمور التي يصعب على الفرد أن يقوم بها، وكذلك فإن الاستراتيجيات الفردية قد تفقد الإنسان عفويته ويتحول إلى منشأة وليس إنسانا.
وقلت له إن الجدارات الفردية وهي على شكل هرم تشكل قاعدته الأكبر السمات الشخصية التي يولد بها الإنسان، ومنتصفه القيم والمفاهيم التي اكتسبها الإنسان خلال حياته وهي عادة ما ترتبط بالسمات الشخصية التي جبِل عليها الإنسان، ومن خلال تجربتي الشخصية هي الأكثر تأثيرا في مسارات حياة الإنسان، ذلك أن الجدارات بقيمها ومفاهيمها هي التي تصنع مساراته الاستراتيجية بكل عفوية، ولذلك تجد الناس يختلفون في الطباع ومسارات العمل والإنجازات بتنوع يحقق في مجمله معنى التنوع والتكامل في الحياة.
وبينت له أنني رأيت كثيرا من الشركات تتأثر مساراتها الاستراتيجية بقيم ومفاهيم المؤسسين لها، بل إنها قد تكون أنشئت بسبب تلك القيم ومفاهيمها، ولذلك فإن استراتيجياتها المكتوبة إن لم تكن مصاغة من فكر المؤسسين الذين يديرون الشركة فإنها عادة ما يكون مصيرها للأدراج لتتحرك الشركة في المسارات المتفقة مع مفاهيم المؤسسين.
لذلك رأيت بعض الرؤساء التنفيذيين عندما حددوا استراتيجيات منشآتهم وضعوا منظومة من القيم والمفاهيم يتم على أساسها استقطاب الكفاءات البشرية المناسبة لاعتقادهم أن نجاح الاستراتيجيات في المسارات المتوائمة مع القيم والمفاهيم المختارة يعتمد بشكل كبير على تواؤم قيم ومفاهيم الموظفين مع القيم المحددة في الاستراتيجية.
ختاما، أرى كثيرا من مسؤولي المنشآت وموظفيها ينظرون لقيم المنشأة ومفاهيمها كنوع من أنواع الترف المكمل لصياغة الاستراتيجية، والصحيح أنها الأساس في إعداد المسارات الاستراتيجية ونجاحها أو فشلها وبالتالي مدى فاعليتها في أرض الواقع.