احتياط نقدي أم "إتاوة" حديثة

ظهرت الحاجة للاحتياط النقدي منذ ظهور الأوراق النقدية ( البنكنوت) و الانفتاح على التجارة الدولية. و قد كانت الدول من قبل تحتفظ بالذهب (لكونه ثمنا خلقة) مظلة لمصداقية ثمنية هذه الأوراق و للتدخل في السوق المالية لشراء و بيع أوراق البنكنوت للحفاظ على سعر الصرف المعلن بين الذهب و تلك العملة. و بزوال حقبة الغطاء الذهبي عام 1973، حل الدولار محل الذهب وأُستبعِد الذهب من لعبة المال الدولية و أصبح سلعة من السلع يباع و يشرى على أساس هذا المفهوم.
الاحتياط النقدي الأجنبي معضلة! فكلما استزادت دولة ما منه كلما قل احتياجها له، و كلما استنقصت منه كلما زاد احتياجها له. و ذلك لأن مصداقية الأوراق النقدية مبنية على الثقة بالدولة المصدرة لها. و من أسباب الثقة الرئيسة لعملة ما، يقين المستخدم لهذه العملة بإمكانية استبدالها بما شاء من الأموال و السلع و الخدمات المتوفرة في شتى أنحاء العالم. فوجود احتياطي نقدي أجنبي كبير يخلق مناخاً من المصداقية لهذه العملة فيحتفظ بها المتعاملون و يبتعد عنها المضاربون فلا يوجد داعي يدعو لاستخدام هذا الاحتياطي فيبقى مجمدا مكدساً في صورة سندات تدفع النزر القليل من الفوائد التي لا تكاد تغطي نسبة التضخم العالمية. وأما قلة الاحتياط النقدي الأجنبي فهو دعوة مغرية للمضاربين للهجوم على هذه العملة واستنزاف الاحتياط النقدي الأجنبي ومن ثم وقوف البنك المركزي عاجزا عن حماية العملة مما يؤدي إلى كسرها وانهيار قيمتها وما يلحق ذلك من تبعات اقتصادية و اجتماعية و سياسية مؤلمة.
الاحتياطيات النقدية الأجنبية يجب أن تكون في صورة سندات مالية مضمونة السيولة و بلا كلفه. فيجب أن تكون دولة عملة الاحتياط ذو تقدم كبير في مجال البنوك و الصيرفة مع التمتع بقوانين شاملة تضمن الحماية لمستخدمي هذه العملة و منه ضمان الانفتاح و حرية تنقل المال. كما يجب أن يتوفر في دولة عملة الاحتياط العمق الاقتصادي الكافي لاستيعاب المبادلات المالية الضخمة ومن ذلك تسعير و بيع و شراء السلع الأولية (كالنفط و القمح) بها. هذه الشروط هي التي جعلت احتكار و هيمنة الدولار الأمريكي أمرا طبيعيا للاحتياطيات النقدية الأجنبية، والتي يشكل الدولار الأمريكي 80% منها.
ولكن بنظرة أكثر تأملا وعمقا، فإن الاحتياط النقدي الأجنبي في صورته الحالية هو في الواقع إتاوة تدفعها الدول جميعا لدولة عملة الاحتياط و التي هي الولايات المتحدة الأمريكية. إن هذه الاحتياطيات النقدية المدفونة في أرقام الحواسيب كسندات دين على الحكومة الأمريكية هي التي زودت الشعب الأمريكي باحتياجاته مجاناً لأكثر من ثلاثين سنة ( أي تغطية العجز التجاري الأمريكي).
فأي شعب من شعوب العالم، يريد التقدم و الازدهار و بناء اقتصادياته والانفتاح على التجارة الدولية أو حتى المحافظة على تقدمه الاقتصادي، يستلزم عليه دفع الإتاوة للشعب الأمريكي و ذلك عن طريق تقديم منتجاته و ثرواته الطبيعية مقابل دولارات رقمية تُجمد و تُكدس كاحتياطي نقدي غرضه إضفاء الثقة على العملة الوطنية.
فما حيلة الشعوب؟ هل تغامر باستخدام هذه الاحتياطيات لشراء احتياجاتها و بناء اقتصادياتها . قد فعلتها بعض دول نمور أسيا في 1997 و تلقنت درسا قاسيا جعلها تكدس الاحتياطيات النقدية الأجنبية أضعاف ما كان لديها من قبل. و قبل أشهر لوحت الصين بذلك ثم ما لبثت أن تراجعت سريعاً. أم ماذا لو تتمرد الشعوب على هيمنة الدولار و تتجه إلى اليورو بدلا من الدولار فتستبدل السيد الأمريكي بالسيد الأوربي؟ أم أن هناك أملا و حلا أخرا؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي