اللغة المحكية.. هل ما زلنا نتعصب لها؟!
الثقافة الشعبية هي أحد مستويات الثقافة العامة والوطنية لشعب ما، وتعبر بعفوية عن جوانب حياته كافة من المسكن والمشرب إلى العادات والتقاليد والعقائد الشعبية، تخط الثقافة الشعبية ملامح الأمة الروحية والعاطفية عبر التاريخ مشكلة وعياً جمعياً يتحرك عبر أبعاد الزمن الثلاثة من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، وباستخدام نواقل الثقافة المكتوبة والمنطوقة المختلفة، والتي تحملها دوماً اللغة الشعبية، إنها ليست دعوة بأن تحل اللغة المحكية مكان اللغة الأم، إنما هي وقفة على دور اللغة المحكية كناقل وفيّ ورئيس للتراث، فاللغة المحكية هي لغة حية في مجال الاستعمال من قبل كل أفراد الشعب وفئاته على اختلاف ثقافاتهم ومخزوناتهم اللغوية الأم وهي زاخرة بالمفردات ذات الخصوصية المكانية والزمانية والتعابير المنتمية لروح الجماعة، والتراكيب الدالة على العرف والمصطلحات العصية على الترجمة والتي لا يفهم دلالاتها ومراميها غير مستخدميها.
اللغة المحكية حية كحياة أصحابها ولها القدرة على الانسلال إلى أضيق الزوايا وأصغر المساحات في الوجدان والشعور الشعبيين بحيث لا تستطيع اللغة الأم في أغلب الأحيان الوصول إلى تلك الدقائق، وترى اللغويين في درجة انفعالية ما يستخدمون اللغة المحكية لا شعورياً لأنها الأقرب إلى ذواتهم.
اللغة المحكية كمعبر عن مفردات التراث هي نفسها جزء من هذا التراث، وأحد مكونات الخصوصية والتميز لجماعة بشرية ما، ويتجلى هذا واضحا في الأمثال والأغاني والحكايات الشعبية، والتراكيب اللغوية وتسمية كل الموجودات ووصفها، فلنلق نظرة سريعة إلى القوالب الغنائية الشعبية، وهل يمكن أ ن نسمعها بغير اللغة التي تقال بها أو أن نقولها بلغة أخرى؟
أبو الزلف:
هيهات يا أم الزلف
يا أم الزلف هيا
تلتين عقلي شـرد
من هوا البنيـة
أسمر اللون:
آخ يا أسمر اللون
حياتي الأسمراني
قلبي من حسنك مفتون
وليش العالم غيراني
جملو:
الله الله يا جملو
وين عيونك تراني
تـَ الله يجمع شملو
اللي ع بعدك سهراني
الدلعونا:
على دلعونا وتحب الشايب
وقلبي من سهر الليالي دايب
حفار القبر علّي النصايب
ورشرش على القبر زهر الليمونا
ظريف الطول:
ياظريف الطول وقف تا أقولك
رايح عالغربة وبلادك أحسنلك
خايف يا محبوب تروح وتتملك
وتعاشر الغير وتنساني أنا
العتابا:
طولك طول عود الحور لو مال
وشـعرك عذب الجهال لو مال
وأبوك لا قبل مني لا فيد ولا مال
فكيف الرأي عندك و ردود الجواب
القرادة:
بدنا نهدي تحية
لعموم الكلية
ونوخذ الأزهرية
من نبت عشب الوادي
مرمر زماني:
مرمر زماني يا زماني مرمر
مرمرتني لا بد ما تتمرمر
الميجنا:
يا ميجناويا ميجنا ويا مـيجنا
أهلا وسهلا شرفونا حبابنا
الجفرة:
جفرة ويا ها لربع بتصيح دلوني
وغشيم بنوم الحضن يا ناس دلوني
بالعودة إلى ما سبق سرعان ما ننسب أي قالب لحني إلى زمانه ومكانه لمجرد سماعه، وهذا دليل خصوصية الهوية التي يسهم في بلورتها الغناء الشعبي المستند إلى إحساس شعبي ولغة محكية في الأساس.
إن المثل الشعبي يلخص تجربة تجمع بشري معين ويعبر عن الوعي الجمعي لهذا التجمع مستخدماً مفردات منتمية إلى خصوصية الجماعة من حيث اللفظ والمضمون، بحيث لا يمكن فهم المثل بمعزل عن جذوره فوراء كل مثل حكاية شعبية أو اعتقاد معين أو حادثة ما.
الأمثلة كثيرة "الشمس ما تتغطى بغربال"، أي لا يمكن إخفاء الحقيقة. "جاجة حفرت على رأسها عفرت"، بمعنى أن كل فرد مسؤول عن عواقب أعماله. " زوان بلادي ولا قمح الغير" أي: مهما يكن عطاء هذه الأرض فهو مقبول. "خذ من طين بلادك وحط على خدادك" بمعنى لا شيء يداني الوطن قيمةً وانتماءً. "أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب" يعكس هذا المثل العلاقات الاجتماعية العشائرية السائدة. "قلبي على ولدي وقلب ولدي على الحجر" إن ارتباط الآباء بالأبناء أشد وأقوى من ارتباط الأبناء بآبائهم. "على قد لحافك مد رجليك" القناعة أساس الحياة السعيدة. "الثلم الأعوج من الثور الكبير" الكبار هم المسؤولون عن الأخطاء وفي المعنى السياسي أن الساسة الكبار هم المعنيون بكل التراجعات.
إنها بعض الأمثال الشعبية تحث على التمسك بالكرامة، وتلخص الجوانب المهمة في حياتنا الاجتماعية، وتنقل الخبرة الإنسانية العميقة من جيل إلى آخر من غير نظريات وتنظير، وتخضع الجميع لأحكامٍ اجتماعية مسبقة مستندة إلى أخلاقية جمعية لازمة للجميع.
هل يوجد مقابل لغوي حي يعطي الدلالة نفسها للتراكيب الاصطلاحية الشعبية مثل: "اقطع راس القط من أول ليلة" وتقال هذه العبارة في حث الرجل ليسيطر على زوجته منذ الليلة الأولى لزواجهما، وهي تعكس رؤية اجتماعية واضحة بأفضلية الذكر على الأنثى وربط الرجولة بالسيطرة. "نومة أهل الكهف" وهي مأخوذة من قصة أهل الكهف كنايةً عن الاستغراق في نومٍ عميق أو دعاء بالموت على أحد ما. "من قاع الدست" كناية عن الكلام الحار اللاذع المؤذي، لأن في قاع الدست (أسفله) تكون خلاصات الطعام. "فورة دم" مصطلح يستخدم للدلالة على قيام أهل القتيل بالثأر من أهل القاتل بقتل أحد أفراد عائلته خلال مدة تحدد بثلاثة أيام، وفي العادة يختفي خلالها أهل القاتل عن العيون، ومن العرف ألا يؤخذ الثأر من النساء مهما كانت درجة قرابتهم من القاتل ولا يجوز التعرض للأطفال، ولا يعتدى على الممتلكات الخاصة بما فيها ممتلكات القاتل. "فركة دان" نوع من أنواع العقاب بحيث تفرك شحمة أذن المعاقب كعقوبة رادعة ويحمل في مضمونه تلويحاً بعقوبة أشد، هذا المصطلح يستخدم على نطاق واسع في العلاقات الاجتماعية والإدارية والسياسية. "ابن الداية"، الداية هي القابلة. وهو مصطلح يراد به الصبي الكبير الذي تسمح له النسوة بالدخول والجلوس بينهن دون أن يكن محتشمات بلباسهن أو جلستهن أو أحاديثهن لاعتقادهن أن ابن الداية أخٌ لجميع هؤلاء النسوة، ويستخدم الآن المصطلح نفسه للسخرية من رجولة أحدهم" إجر كرسي" كناية عن الشخص عديم النفع والفائدة ويستخدم في المعنى السياسي دلالة للتبعية السياسية التامة للغير.
إن كان التركيب الاصطلاحي رمزاً لغوياً شعبياً فهو يعني عرفا اجتماعيا معيناً وتوجهاً أخلاقياً محدداً، وتستخدمه الفئات الشعبية كافة ضمن المعنى نفسه، وهو يمثل اتفاقاً ضمنياً أو معلناً حول موقف اجتماعي. فلا يمكن استخدامه في نقيضين كالتعريفات العلمية تماما.
اللغة المحكية ليست بحاجة إلى شروح فقد تم الاتفاق على دلالاتها سلفاً خلال تعاقب الأجيال.
إن الحفظ التراثي للمصطلحات والتعابير والأغاني والأمثال الشعبية على حالها لا يعني أدنى مشكلة بين العامية والفصحى، إنما يحقق التكامل والترابط بين الموروث الثقافي الشعبي والعروبة الفصيحة، فاللغات المحلية تنضوي تحت لواء اللغة الأم بكثير من الألفة وباحترام كل من اللغتين لخصوصية الأخرى ودورها المنوط بها تكمن استمرارية اللسان العربي الفصيح.