تاريخ التلقّي.. مسافة زمنية طويلة بين الأذن والعين!

تاريخ التلقّي.. مسافة زمنية طويلة بين الأذن والعين!

هل استمعت إلى المتنبي وهو يلقي قصيدته؟.. دعك من المتنبي ولنأخذ شاعراً عاصرناه.. هل ساعدتك القنوات العربية الحكومية ما قبل الفضائيات في الاستماع لنزار قباني؟.. دعك من قباني ولنتشعب و"نتشعبن" أكثر.. هل يعجبك إلقاء بدر بن عبدالمحسن؟!.. هل شككت ولو لمرة واحدة في أنهم عظماء شعر؟.. إذا هو الورق يا سيدنا القارئ.. هي "مسارح البهلوان" يا سادتنا "المشاهدين"!.
انتقل الشعر من مرحلة القراءة إلى مرحلة المشاهدة بعد أن مرّ بمرحلة قصيرة هي مرحلة الاستماع.. في كل مرة كان ينتقل فيها الشعر إلى مرحلة "إعلامية" جديدة كانت عناصره الحقيقة تسقط في الطريق واحداً تلو الآخر.. وهكذا حتى وصل الشعر بآخر رمقٍ من حقيقته.. هو الآن مجرد كلمات ليست كالكلمات!.. هو الآن كلماتٌ متحركة على المسرح والشاعر الأجمل هو من يلفت النظر إليه بأي شيء ممكن حتى إن وصل به الحال إلى وضع يديه بجانب شدقيه وصرخ بأعلى صوته.. أو قلّب يديه أو لوّح بعقاله.. أو "فحّط" أو أي شيء قادم أكثر سخرية ولفتاً للأنظار دون المهج، وصل الشعر الآن إلى مرحلة خطرة لا تفرق فيها مسارحه عن مسارح السرك بحيث يمكن لك أن تقدم الشاعر للجمهور على أنه البهلوان فلان الفلاني.. واقرأ للجمهور ما شئت عن مشاركاته المتعددة في كثيرٍ من مسارح "البهلوة".
مسرح عكاظ!
على مسرح سوق عكاظ تنافس الشعراء وتنافس المحكّمون وكان النص يلقى على الحضور، وقيل كان ينشد، أي أنه كان يلقى على لحنٍ معروف بصوت شاعره، هذا الكلام يشفع لمن يميل لسماع النص "بشيلة" أو يميل لسماع النص بصوت مطرب وبتأثير مباشر من اللحن والتوزيع الموسيقي للأغنية، ومن المعلوم أن تلك الفترة لم تكن الكتابة منتشرة بين العرب، فلا مجال لتناقل النص مكتوباً، ولكن لو كان هذا هو السبب الوحيد في وصول النص للحضور ومحكّمي سوق عكاظ هل كان التاريخ سيحفظ لعمرو بن كلثوم معلقته؟!.. هل كان الشعراء سيقفون أمام النابغة الذبياني، وهُم في همٍّ وخوف من التقاطةٍ نقدية كتلك التي عددها النابغة لحسان بن ثابت، رضي الله عنه، في قصتهما الشهيرة، رغم ذلك أنصف التاريخ والورق حساناً، رضي الله عنه، إذ نقل لنا التاريخ أقوال شعراء العربية الكبار في عصره والعصور التي تلته وإنصافهم له واختلافهم مع النابغة الذبياني حول بيتي حسان بن ثابت.
شاعر من ورق
الجزء الأكبر من تاريخ الشعراء مع الغاوين للورق، للدواوين المكتوبة، لكتب النقد، وللكتب ذات الطابع التجميعي مثل "مئة قصيدة حب" وأشباه هذا العنوان التي كانت وما زالت تكفل للناشر مستوى عاليا من البيع، الصحف في الزمن المتأخر من تاريخ القراءة، وللمجلات المتخصصة في الشعر التي سادت فيها مجلات الشعر الشعبي في العشرين سنة الأخيرة، وعند المجلات الشعبية سنتوقف قليلاً، ونتحدث عن صناعتها للكثير من قرّاء الشعر الشعبي الذي انتقل معها من مرحلة القالب التقليدي الجاهز لصناعة الشعر، إلى عدة قوالب خاصة بشعرائها الذين كانوا في مرحلتها الأولى نقلة كبيرة في تاريخ الشعر الشعبي، ثم انتقلت بعد ذلك لتمرير شعراء الفكاهة والفلاشات السطحية والذي لم يفلح معهم التقديم الورقي فانتقلت بهم المرحلة إلى مرحلة أخرى هي مرحلة الصوت.
شاعر من صوت!
كنّا لا نجد قبل 15 عاماً من الآن ديواناً صوتياً واحداً لشعرائنا المفضلين، فقط اجتهادات من بعض أصحاب الاستريوهات في تسجيل مقاطع غنائية يتخللها مقاطع شعر قصيرة بأصواتهم لعدد من الشعراء المعروفين، وإن سلمت ذائقتك من ملقٍ سيئ لن تسلم من قارئ للشعر أسوأ، كالذي ألقى البيت الشهير للأمير خالد الفيصل "ومشاهدة سرب القطا من روض للثاني يطير" بهذا الشكل " ومشاهدة سرّ القمر من روض للثاني يطير"، طالت هذه الفترة، ولكن بعد ذلك تنبه الشعراء أن الديوان الصوتي موصل أكثر من جيّد للنص، فبدأ التنافس المحموم على نيل النصيب الأكبر من الاستماع والتوزيع، وأصبحت المسألة تنافسا يلغي الفرق الحقيقي المنصف على الورق.
شاعر من صورة!
من مصر جاءت التسمية الظريفة "أرنب" والتي تعني "مليون جنيه" وهذه التسمية ترمز لكثرة التوالد المعروفة عن الأرانب، فمن يصل إلى المليون الأول لن يبذل ذات الجهد في المليون التالي فـ "أرنبية" المليون ستخدمه في كثرة توالد الملايين بعد ذلك، ومن مصر انطلقت أولى الفضائيات المتخصصة في الشعر الشعبي، فتوالدت القنوات الشعبية بعد ذلك، وبدأت معها مرحلة الصورة الأكثر خطورة في الحضور، الناس تحفظ أشكال الشعراء، وتتعرف عليهم في الطرقات والأسواق وتطلب التصوير معهم، ولا تحفظ لهم شيئاً للأسف، البعض يحظى بحفظ المشاهد لمطالع قصائده بفعل تدعيمها بـ "شيلة" جمعت الصوت والصورة، في تصرف ذكي إن كان مقصوداً!
مسرح البهلوان!
الآن نحن نعيش مرحلة الصوت والصورة و"البهلوة"، فالشاعر الآن في مواجهة الجمهور مباشرة والحفل ينقل على الهواء مباشرة ونسبة المشاهدة لا تقل عن عشرة ملايين مشاهد، والمسوّق الإعلامي يعلم جيداً أن من يصفّق له الجمهور أكثر، هو من سيجلب قرّاء أكثر للمجلة، ومشاهدين أكثر لفضائية الشعر الشعبي، ومشترين أكثر حين يكون الاستثمار في ديوان صوتي! على المسارح تحول الشاعر إلى بهلوان يلفت الأنظار إليه كلما كثرت حركاته وقلّت سكناته، ويكسب تصفيقاً أكثر كلما "ابتكر" حركةً جديدة، وتماشياً مع هذه الظاهرة الجديدة فمن يستقرئ المستقبل سيرى مسارح فريدة من نوعها، تعلّق فيها الحبال في أعلى المسرح ويدخل الشاعر في زيّ البهلوان، ويمرّ "بسيكل" على الحبل المشدود بين طرفي المسرح، وهو يلقي قصيدته، والشاعر الأفضل هو الذي يصل إلى الضفة الأخرى من المسرح عند البيت الأخير دون أن يسقط!، وسيرى المستقرئ الجمهور وهو يصفق بحرارة لهذا البهلوان!.

الأكثر قراءة