الأسيرات المسلمات.. مسؤولية مَنْ؟
للأسير في كل الشرائع والملل عناية خاصة، بالنظر إلى حالة الضعف التي يحل بها، علاوة على السلطة المطلقة التي يمارسها نحو من وقع تحت يده.
وعلى مر التاريخ كان الأسرى يدفعون ثمن وقوعهم في الأسر باهظاً، خاصة إذا تخلَّى الإنسان عن أخلاقياته وتناسى إنسانيته.
ولأجل هذا جاءت شريعة الإسلام لتضع قضية الأسر واضحة المعالم، مهما كان مبرر أسره، فالظلم ممنوع والإحسان إليه مبذول، بل فيه اعتبار لإنسانيته إلى الحد الذي يأمر الله تعالى نبيه محمداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأن يحاور الأسرى حوار اللطف والبيان، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنفال:70] ومع كل الأحوال فالاعتبارات الإسلامية القائمة على الإحسان يلازمها عباد الله الأبرار، ويصفهم بها القرآن الكريم: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان:8].
وعاتب الله المؤمنين ولامهم على ترك إخوانهم المستضعفين تحت تسلط الأعداء وتنكيلهم، فقال سبحانه: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) [النساء:75].
قال الحافظ القرطبي ـ رحمه الله ـ عند تفسير هذه الآية: "... وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين، إما بالقتال, وإما بالأموال، وذلك أوجب لكونهما دون النفوس، إذ هي أهون منها، قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم، وهذا لا خلاف فيه لقوله عليه السلام : "فُكُّوا العاني".
قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب, وإن لم يبق درهم واحد.
قال ابن خُوَيزِمَندَاد: تضمنت الآية وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: أنَّه فَكَّ الأسارى، وأمر بفكِّهم، وجرى بذلك عمل المسلمين، وانعقد به الإجماع.
ويجب فك الأسارى من بيت المال, فإن لم يكن فهو فرضٌ على المسلمين كافة, ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين" أ.هـ.
ولأجل هذا أمر المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتحرير الأسرى فقال: "فكُّوا العاني ـ يعني الأسير ـ وأطعموا الجائع وعودوا المريض" رواه البخاري.
ومما يبين عظيم الاهتمام بفك أسارى المسلمين: ما أُثر عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ عندما وقع بعض المسلمين في الأسر, بعث إليهم عبد الرحمن بن عمرة لفك أسرهم وقال له: "أعطهم لكل مسلم ما سألوك!! فو الله لرجل من المسلمين أحب إلي من كل مشرك عندي! إنك ما فاديت به المسلم فقد ظفرت به! إنك إنما تشتري الإسلام" رواه سعيد بن منصور في سننه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله: إنَّ فكاك الأَسَارَى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القُرُبَات.
وقال العلامة ابن قدامة "ويجوز أن يشتري من زكاته أسيراً مسلماً من أيدي المشركين, لأنه فك رقبة من الأسر, فهو كفك رقبة العبد من الرِّقِّ, ولأن فيه إعزازاً للدين, فهو كصرفه إلى المؤلفة قلوبهم, ولأنه يدفعه إلى الأسير لفك رقبته, فأشبه ما يدفعه إلى الغارم لفك رقبته من الدين".
وعند الاطلاع على ملفات أسرى المسلمين في زمننا الحاضر نجدها ملفات تحزن النفوس وتشعرنا بالذل والمهانة، خاصة في بلاد المسلمين المحتلة في فلسطين والعراق وغيرهما.
وبحسب إحصائيات حديثة فإن الأسرى في فلسطين لدى اليهود يزيد على ثمانية آلاف أسير، وأما الأسيرات فيبلغ أكثر من 120 أسيرة, إضافة إلى 350 طفلا قاصرا.
إن أسرانا جميعاً حقهم أن نسعى لإطلاقهم, ولكن الأسيرات والأطفال حقهم أوجب وأوكد، لما لهم من الحرمة الزائدة ولما يلحقنا من العار جراء ارتهان النساء المسلمات في أيدي من خلاق لهم.
إن النفوس الأبية لا ترضى أن ينال النساء بأقل الأذى، فكيف وهن تحت وطأة الأسر، بكل ما يعنيه ذلك المكان من الذل والإهانة وأنواع الاعتداء، وما زالت التقارير عن الأوضاع المزرية للأسيرات في سجون اليهود تفطر الأكباد, لما يتعرض له الأسيرات من المعاملة المهينة.
وحتى ننتقل من مرحلة الخطب والمقالات إلى مرحلة العمل والتنفيذ فإن من المتعين على الدول الإسلامية أن تعد خطة عمل لإطلاق جميع الأسيرات والأطفال عاجلاً, وأن تستثمر مقتضيات القوانين والمعاهدات الدولية ومقرراتها لتحقيق هذا المقصد الجليل.
وإن منظمة المؤتمر الإسلامي بما لها من حضور سياسي دولي وكونها جامعة للدول الإسلامية من المتعين عليها أن تجعل إطلاق الأسيرات والأطفال وإخراجهم من السجون اليهودية أحد أولوياتها, وأن تخصص لجنة للتخطيط والمتابعة حتى يتحقق هذا المطلب المهم، عبر مؤتمرات دولية تعقدها وعبر مخاطبة ومطالبة المنظمات الدولية الحقوقية والسياسية للضغط على الحكومة اليهودية وتجريمها حتى تطلق الأسيرات والأطفال.
وحيث إن هذا العمل لا بد له من نفقات مالية فتحتاج منظمة المؤتمر الإسلامي إلى أن تنشئ صندوقا ماليا خاصا بالأسرى والأسيرات من أهل الإسلام، بحيث ينفق منه على تكاليف هذه اللجنة, ويجعل من مصارف الصندوق دعم العائلات التي فقدت معيلها بسبب الأسر. وأن تدعو المسلمين لتمويل هذا الصندوق, خاصة الأغنياء منهم، وأجزم أن النبلاء من أغنياء المسلمين لن يترددوا لحظة واحدة في توفير المال اللازم لهذه اللجنة حتى تنجز مهمتها.
كما أن الأغنياء ورجال الأعمال وإلى حين قيام مثل هذه اللجنة وصندوقها المالي واجبٌ عليهم أن يقدموا للأسيرات وعائلاتهن ما تبرأ به ذممهم عبر الهيئات الإغاثية التي يصل نشاطها إلى الأراضي المحتلة.
وأذكر هنا بأعظم مراثي الشعر:
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم
قتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ
ماذا التقاُطع في الإسلام بينكمُ
وأنتمْ يا عبادَ الله إخوانُ
ألا نفوسٌ أبيَّاتٌ لها هممٌ
أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ
يا ربَّ أمٍّ وطفلٍ حيلَ بينهما
كما تفرقَ أرواحٌ وأبدانُ
وطفلةٍ مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت
كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ
يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً
والعينُ باكيةٌ والقلبُ حيرانُ
لمثل هذا يذوب القلبُ من كَمَدٍ
إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
اللهم هل بلَّغت، اللهم فاشهد.