البلد (خيراته كثيرة)
في لقاء خادم الحرمين الشريفين بالمتعاقدين كشف في خطابه لهم أنه أمر بعدم التعامل مع الاكتشافات النفطية الجديدة وتركها في باطن الأرض حتى تستفيد منه الأجيال المقبلة، معللا إقدامه ـ حفظه الله ـ على تلك الخطوة الجريئة العادلة بأن البلد (خيراته كثيرة).
هذه الخطوة هي حث المسؤولين والاقتصاديين على التوقف عن الاستمرار في الاعتماد على الدخل الريعي كمصدر وحيد للدخل وعدم التراخي عن تحقيق الهدف الاستراتيجي تنويع مصادر الدخل الذي وضع منذ ثلاثة عقود ولكن لم يتحقق حتى الآن، في حين أن هناك دولا لا تملك من الموارد ما نمتلكه مثل تايوان وهي جزيرة صغيرة عدد سكانها 23 مليون نسمة تحتل المركز 16 في قائمة أكبر اقتصاديات العالم من حيث التبادل التجاري، وإذا كانت هي لا تملك من الموارد الطبيعية ولكنها نجحت في تطوير اقتصاد يعتمد على التكنولوجيا المتقدمة حتى أصبحت من أكبر الدول المنتجة لأجهزة الكمبيوتر المحمول والماسحات الضوئية والشاشات في العالم، وهي تملك خامس أكبر احتياطي نقدي من العملات الأجنبية على مستوى العالم.
السبب أننا لم ندرك أهمية الاستثمار في التعليم وفي البحث العلمي، وهذا يتضح من الإنفاق على البحث العلمي والتطوير في عام 2006، نسبة ما تنفقه الدول المتقدمة على البحث العلمي والتطوير تصل إلى 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، خصوصا في الولايات المتحدة واليابان أكبر اقتصادين في العالم، يرتفع هذا الإنفاق إلى 4.7 في المائة من الناتج الإجمالي القومي في إسرائيل بينما ينخفض هذا الإنفاق بشدة في الدول العربية إلى 0.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي المتواضع أصلا الذي يصل إلى 1.7 مليار دولار، في حين تنفق تايوان بمفردها 15 مليار دولار على البحث العلمي، علاوة على ذلك فان الإنفاق في العالم العربي يتركز في القطاع الحكومي بنسبة 80 في المائة بينما في الدول المتقدمة لا يزيد الإنفاق الحكومي على 2 في المائة بينما يزيد إنفاق القطاع الخاص على البحوث والتطوير إلى أكثر من 80 في المائة ويرتفع كذلك نصيب القطاع الصناعي الذي يراوح بين 55 – 70 في المائة، لكنه ينخفض في العالم العربي إلى 3 في المائة فقط.
فدول الخليج قاطبة عاشت طفرات اقتصادية نتيجة ارتفاع أسعار البترول، الأولى كانت ما بين 1973 ـ 1981 عندما ارتفعت أسعار البترول من ثلاثة دولارات عام 1973 إلى أكثر من 34 دولارا للبرميل عام 1981، ونعيش الآن طفرة اقتصادية ثانية وصل فيها سعر برميل البترول إلى أكثر من 100 دولار.
فمعدلات التضخم العالية زمن الطفرة الأولى كانت نتيجة محدودية القدرة الاستيعابية للاقتصاد الخليجي لضعف مستوى التجهيزات الأساسية القائمة في ذلك الوقت التي لم تتمكن من مجاراة الطلب المتزايد عليها، ورغم الإنفاق الحكومي المتزايد بعد الطفرة الأولى إلا أن ذلك الإنفاق لم يحقق تنوعا تدريجيا للاقتصاد المحلي يقلل الاعتماد المطلق على إيرادات البترول الخام فأصبحت دول الخليج مستوردة لمعظم احتياجاتها، فكان لابد لها أن تستورد التضخم كذلك في ظل ارتفاع الأسعار العالمية، ما جعل السياسات النقدية في دول الخليج واقعة تحت ضغوط عديدة تبحث عن المسكنات الفاعلة ذات الآثار الجانبية، وهي ضريبة التراخي عن عدم الاستثمار في التعليم وفي البحث العلمي لامتلاك وتوطين التكنولوجيا التي تزيد من الإنتاجية وتعظم القيمة المضافة من إيرادات الدخل الريعي، تحقق تنمية مستدامة وتزيد من تراكم الثروات العلمية والمالية للأجيال المقبلة مثلما يحلم خادم الحرمين الشريفين ـ يحفظه الله.