الظاهرة: "نشر النص مع اليقين بتواضعه".. السؤال: "ليش"؟!
كثيراً ماردد الشعراء القدامى "قصائدي مثل بناتي" وتأتي هذه الجملة غالباً إجابة لسؤالِ يتعلّق بأحب قصائده إليه, ربما تكون هذه الإجابة لتمرير نرجسية الشاعر وإيحاء بأن جميع قصائدة جميلة, أو على الأقل إجابة مخادعة كإجابة تلك الأعرابية التي سئلت عن أحب أبناءها فقالت: (الغريب حتى يعود، والصغير حتى يكبر، والمريض حتى يشفى).
وفي الشعر المحكي المعاصر تقرأ أحياناً لشاعر مبدع نصاً يجعلك تشكك في ذائقتك, ولا سيما أنك تعرف قدرات هذا الشاعر الذي يستطيع استجلاب الدهشة كلما سمعته, لكنه يخذلك أحياناً عندما تقرأ بعص نصوصه فيجعلك تتساءل هل نشر هذا النص بتعاطف معه كأن يكون آخر العنقود, أم تأثر بالنص لأنه يعني له شيئاً خاصاً وإنحازا له أو لتلك الحالة التي كتبها فيه بعيداً عن الشعر داخل النص, وهذا ربما يلحظ كثيراً من خلال وضع الشعراء – بالمنتديات خاصة – تواقيع لهم من قصائدهم,قد نجد العذر للشاعر في الأمسيات عندما يبحث عن القصائد المنبرية المباشرة لأنه يخاطب الجمهور شفهياً ويريد أن يوصل رسالته بوضوح وبذلك يتنازل عن أشياء كثيرة داخل النص في سبيل الوصول لشريحة أكثر من المتلقين, تظل كل التأويلات ممكنة ومفتوحة ربما اختلف الأمر من شاعر لشاعر باختلاف ذائقة القراء في الحكم عن النص وتلقيه, لهذا حملنا هذه التساؤلات وواجهنا بعض الشعراء – أو لنقل اتهمنا بعض الشعراء- علّنا نجد مبرراً كافياً , وكما هو متوقع أصر البعض على مراوغة السؤال, فيما بدأ البعض واضحاً ومُقنعاً إلى حد كبير, فيما تنصل الشعراء من النشر لمجرد الحضور..
لأنها بحاجة للخدمة!
في البدء حملنا أدوات استفهامنا لمواجهة الشاعر الشاسع سعد زبن الذي بدأ متفقاً من أن الكثير من الشعراء يبادرون بنشر قصائدهم الأقل جمالاً لأن الشاعر يرى أن هذه القصيدة لابد من خدمتها لتصل للمتلقي بعكس القصيدة الجميلة التي ستصل غالباً حتى لو لم تحظ بالنشر, وفي أحايين كثيرة-والكلام لسعد زبن-تكون القصيدة خاصة للشاعر وينحاز لها لأنها تلامس شيئا خاصا وذاتيا يخصّه, ولكل قصيدة حالتها وشجونها وموقعها من روح شاعرها بعيدا عن مقولة أن القصائد كبنات الشاعر حيث يرى أن هذه مقولة أكل عليها الدهر وشرب ولا صحة لها البتة.
اسألوا كاظم الساهر!
أما الشاعر الجميل صالح السكيبي فعزا ذلك إلى أسباب عدة قد يكون منها أن الشاعر وصل لمرحلة التشبّع شعرياً والنشر بالنسبة للشاعر لا يتعدى محاولة الحضور لمجرد الحضور, وقد يكون المتلقي أيضاً أصيب بإرهاق في ذائقته في ظل السيل العارم من الشعر, ولأن هذا الموضوع كبير- حسب وصفه- ويفتح أسئلة عديدة وكثيرة منها أن المتلقي قد يكون هو الآخر وصل إلى درجة التشبّع وأخذ يبحث عن شيء جديد لم يعتده, وربط بين ما يحدث بالشعر بغيره من الفنون الأخرى ضارباً مثلاً بالفن حيث لم يعد كاظم الساهر بألبوماته الأخيرة هو كاظم قبل ذلك, فالحضور أصبح أهم بكثير من كيفية الحضور, وختم حديثه قائلاً ( والله ياخي جالسين يرهقون ذائقتنا)
لم أفعلها
الشاعر محمد الوسمي كان أكثر هدوءاً بالتعاطي مع هذا الموضوع, حيث ان الشاعر برأيه يكون رهن(حاله) ومن الطبيعي أن تتفاوت نصوصه وضرب مثلاَ بنفسه فقد يكتب نصا يرضي غروره فيما بعض النصوص يرى أنه وهو كاتبها يشك أنه قد كتبها من قبل, ويقدم على نشر هذا النص رغم قناعته بعاديّته لأنه يرفض ممارسة وسلطة الناقد, فقد يكون للمتلقي رأي آخر, ويرى فيه جمالاً مؤمناً بعملية إختلاف الأذواق, وتبقى لدى الشاعر قناعته بنصوصه في النهاية, وأردف أن ما قاله لا يمثله شخصياً بقدر ما هو محاولة إيجاد مبرر للآخرين, فلم يسبق له نشر نص لم يكن راضياً عنه تماماً وهذا - حسب قوله - هو السبب الذي جعله مقلاَ في النشر, متمنياً أن يقطع كل شاعر على نفسه عهداً بعدم الحضور لمجرد الحضور وقتها سيراهن أن الجميع لن يقرؤوا إلا شيئاً"نظيفاً"!
الشعر كالغيم
الشاعر نايف عوض كان يتحدث بلغة أقرب للشعر أو أعلى ربما, حيث وصف الشاعر بالغيمة فالغيم في حد ذاته شيء جميل, لكنه قد لا يتمخّض عن مطر أحياناً, وكذلك الشاعر تكون القصيدة جميلة كغيمة بذهنه لكن بعد استيطانها الورق يتحدد هل كانت مطراً أم أنها غيمة مرّت ولم تتوقف, أما مسألة نشر النص فقد تخضع لأشياء عدة قد يكون أحياناً سوء اختيار من الشاعر, وقد يكون مسألة حضور بغض النظر عن الشعر, مؤكداً عدم نشره أي نص لم يكن راضيا عنه, أما مسألة قبوله لدى المتلقي فذلك أمر آخر يعيه الشاعر تماماً ولا بد أن يعرف من هو قارئه, وماذا يريد.
مجاملة واختبار نص!
الشاعر أحمد البلوي يرى أنه من الطبيعي جداً أن تراوح نصوص الشاعر فقد يكتب الشاعر عدة نصوص عادية ثم تجلى بنص بعد ذلك, ومن هذا المنظور يقرأ للشعراء, بحيث لا يفاجأ بعادية نص لشاعر عظيم لإيمانه بأن الشاعر لن يكون مبدعاً بكل ما يكتب, أما فيما يتعلق بمسألة النشر فأحياناً يكون سوء اختيار من الشاعر حيث يرى ان هذا النص جميل وتخذله ذائقته مع القارئ, موضحاً أنه سبق له نشر نصوص لم يكن راضيا عنها إنما كان ذلك لطلب من شخص معين, ومع هذا الطلب فقد توقع أنه هو قسا على النص وأراد اختباره بتمريره على ذائقة القارئ الذي عزز ثقته بعاديّة هذا النص!
ورغم أن الكثير من الشعراء حملّوا "الضوء" هذه المسألة, وأنها هي المحرّض للنشر لمجرد الحضور, مع نفي أغلبهم بإقدامه على نشر نص لم يكن على قناعة كاملة به, وبقية شماعة "اختلاف الذائقة" منافساً قوياً للظهور بغرض التواجد!