حين تكون الغربةُ وطناً

حين تكون الغربةُ وطناً

* فاتحة القلب :
" سألتك أن ترتديني خريفا ونهراً
سألتك ألا أكون وألا تكوني ..
سألتك أن ترتديني خريفاً
لأذبل فيك وننمو معا ! "

قد تكون المرة الأولى التي يسافر فيها وحيدا .. هكذا تماثل له المشهد إلا أنه اكتشفت أنه ليس وحيداً !
فقد رافقه حزنه الممتد كجرح ٍ طازج ، وتبعته هزائمه الصغيرة ، ومباهجه الضئيلة ، هاهي قصائده المحبطة تلوح للمسافرين والمشردين من أوطانهم والمتسكعين في أفق ٍ من غمام .
" يبتعد عن صحراء الحب ؛
ليغرق في بحره الأجاج ..
ابتعدنا واقتربنا وابتعدنا ..
ليت البحر أبعد كي أخاف من الصحاري
كانت الصحراء جالسة على جلدي ! "

وهاهو جسد مسجى بين غيوم ٍ لا تكاد تتلاشى ، مازال يمضغ وجوه الناس بينما تنور الذاكرة يخبز وجوها أليفة أخرى !
وصوت أنهار يثقب القلب :
" بابا لا تتأخر ولا تنسى الهدية "
يتمتم في قلبه :
قد أتأخر.. ولكن حتما لن أنسى الهدية !
كان على شفا حفرة من الجرح ، فأنقذه صوت قائد الطائرة الأجش وهو ينبه المسافرين لضرورة ربط أحزمة والامتناع عن التدخين لقرب موعد الهبوط . ركضت إحدى المضيفات إليه مقطبة الحاجبين ، بعدها تراجعت خجلا عندما تأكدت من مصدر التدخين .
لقد كان يحترق على ورقة بيضاء !
كان يحترق شعرا وصبرا وقهرا ، بينما يتعالى الدخان من صدره النحيل .
" أنا المتكلم الغائب
سأنتظر انتظاري
كنت اعرفني ..
لأن طفولتي رجل أحب
أحب امرأة تمر أمام ذاكرتي
ونيراني ولا تبقى ولا تمضي ! "

كان طقس المدينة التي هبط إليها حالما .. وطقسه غائما !
استقبال مبهج يملؤه بالزهو والعطر والنساء ..
كانت المدينة ممطرة كجراحه المشتعلة، تأمل ردهات المطار ووجوه الناس . نظرات العابرين تشي بفرح ٍ قادم ، ابتسامات بيضاء تصفع قلبه المخبوء تحت أوراق الحبق !
كانت إحداهن ترمقه بنظرات دافئة أوجس خيفة ،
فأدركتْ أنه قاب قوسين أو أدنى من نزفه !
كانت تردد بألم ٍ شاهق:
"والآن أشهد أنه قطع المسافة ..
بين مدخل جرحه والانفجار! "
انتظر صوت صديقه مليا ولم يأت فأينع غصن ٌ أصفر في داخله.
استقل أقرب سيارة كان سائقها يتحدث العربية بلكنة محشو بالبهارات والفلافل الهندية : " وين تسير " ؟!
رد عليه بنزق العاشق ، وقصاصة ذلك الساحلي .. هاشم الجحدلي تتشظى في فمه :
" إنني ذاهب في الغوايات حتى أقاصي السديم .. فاتقوا لوعتي!"
وبدأ يهذي بوعيه المتـّقد :
" غريبان ..
إن القبائل تحت ثيابي تهاجر ،
الآن أعلن أن ثيابك كفن ..
ومابين يومين يولد يوم جديد لنا ،
وماذا نسميه ؟!
قلنا : وطن ! "

تبعثرت أشياؤه وأشلاؤه بين فنادق المدينة وخنادق الوجع !
مازال يهتف بغناء مظفر النواب :
" آآآه ٍ من العمر بين الفنادق لا يستريح ..! "
فيما صوت أنهار يثقب القلب :
" بابا لا تتأخر وتنسى الهدية ! "

من دفتر الغيم ..
" كتبت وصيتي بدمي ...
ثقوا بالماء يا سكان أغنيتي ! "

الأكثر قراءة