هل تدفع الصين أمريكا إلى التراجع عن الانفتاح الكامل؟
عندما جلس الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لتناول العشاء مع تشي جين بينج الشهر قبل الماضي، في قمة مجموعة العشرين في عاصمة الأرجنتين بوينس آيرس، لم يكن الرئيس الأمريكي على علم بالقنبلة الدبلوماسية التي كانت على وشك الانفجار.
في الوقت نفسه، اعتقلت الشرطة في كندا تنفيذية صينية ضمن واحدة من أكبر شركات الاتصالات في الصين، بعد طلب تسليم من واشنطن.
كان احتجاز مينج وانزهو، كبيرة الإداريين الماليين لشركة هواوي، أمرا استثنائيا لأن وزارة العدل الأمريكية لم تبلغ البيت الأبيض بشأن أمر القبض على ابنة مؤسس مجموعة الاتصالات، التي تعد واحدة من أنجح الشركات الصينية وأكثرها نفوذا.
على أن أهمية الاعتقال ذهبت إلى أبعد من الظروف المباشرة بكثير، فهو الرمز الأبرز حتى الآن للتدهور العجيب في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، التي ترتاب بشكل متزايد في دوافع أعمال بكين.
ما يعزز هذا التمزق، اتهام الولايات المتحدة بعد ذلك بعدة أسابيع مواطنين صينيين، بالقيام بحملة قرصنة عالمية لمساعدة أجهزة الاستخبارات الصينية.
في حين أن الحرب التجارية تحظى بأكبر قدر من الاهتمام، إلا أن الصراع الاقتصادي هو جزء من تحول أكثر عمقا في الولايات المتحدة، يعكس عناصر مهمة كانت خفية في استراتيجية واشنطن من أجل الانخراط مع منافستها الآسيوية، التي تم طرحها لأول مرة منذ أكثر من 40 عاما، من قبل الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون.
دعم هذا التغيير في النهج له قاعدة عريضة في الولايات المتحدة. أصبح المسؤولون في جميع أنحاء الحكومة الأمريكية أكثر تشددا تجاه الصين - على كل شيء ابتداء من حقوق الإنسان والسياسة والأعمال إلى الأمن القومي.
وفي الوقت نفسه، فإن الشركات والأكاديميين الأمريكيين الذين كانوا يعملون حاجزا ضد أقسى الآراء، أصبحوا الآن أقل تفاؤلا بكثير إزاء الانفتاح على الصين.
يقول هانك بولسون، وزير الخزانة الأمريكية السابق: "قللت الصين إلى حد ما من المدى الذي تغير فيه المزاج السائد في الولايات المتحدة. الموقف الذي يرى أنهم سينفذون الإصلاحات ضمن جدول زمني، منطقي بالنسبة إليهم. إلا أنه يفوِّتهم حقيقة أن هذا لم يعد مستداما، إذا أرادوا أن تبقي الولايات المتحدة أسواقها مفتوحة أمامهم. ذلك أن مجتمع الأعمال الأمريكي يدعم الآن خطا أكثر تشددا".
في حين يحب ترمب أن يصف رئيس الصين تشي كصديق له، أشار البيت الأبيض إلى تحول كبير بعيدا عن الصين، عندما وصفها بأنها "قوة تغير من مواقفها" في استراتيجيته للأمن القومي، في كانون الأول (ديسمبر) 2017.
في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أكد مايك بنس، نائب الرئيس هذه الرسالة في خطاب ألقاه في معهد هدسون، اتهم فيه الصين بمجموعة من المخالفات - من القمع السياسي في الداخل، إلى الدبلوماسية القسرية في الخارج.
وقد تمت مطابقة الخطاب مع العمل. في بحر الصين الجنوبي، تجري البحرية الأمريكية الآن بشكل متكرر عمليات الملاحة الحرة، لردع مطالبات السيادة الصينية على الشعاب المرجانية والجزر المتنازع عليها.
في هذه الأثناء، أنشأت وزارة العدل فرقة عمل "مبادرة الصين" للقضاء على التجسس.
في حين اعتقلت السيدة مينج بتهمة مساعدة شركة اتصالاتها في انتهاك العقوبات الأمريكية على إيران، يشعر المسؤولون الأمريكيون منذ فترة طويلة بالقلق من أن شركة هواوي، يمكن أن تساعد الصين على التجسس على المنافسين.
لقد تصاعدت هذه المخاوف في العام الماضي، وبلغت ذروتها في إقناع الولايات المتحدة لشركائها بتبادل المعلومات الاستخبارية ضمن نطاق بلدان الأنجلوساكون المعروفة بـ"الأعين الخمسة" Five Eyes، أي كل من: كندا وأستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا، علاوة على الولايات المتحدة، - لأنهم بحاجة إلى اتخاذ موقف أكثر تشددا بشأن شركة هواوي، وفقا لأحد الأشخاص المطلعين على الوضع.
في حين أن المخاوف بشأن الصين ترتفع بالتوازي مع ظهورها كمنافس للولايات المتحدة، فقد توصلت واشنطن إلى أنها كانت تستهين بالسرعة التي واكبت فيها الصين الولايات المتحدة فيما يتعلق بالتكنولوجيا - ولا سيما التكنولوجيا ذات التطبيقات العسكرية.
يقول دنيس وايلدر، الرئيس السابق للتحليل الصيني في وكالة الاستخبارات المركزية، إنه مع تراجع الحرب الأمريكية العاجلة على الإرهاب، استيقظ مسؤولو الاستخبارات والأمن القومي الآن على حقيقة أن الصين تستخدم نهج "المجتمع الكامل" لجمع المعلومات الاستخبارية، وأن انفتاح الغرب على العلماء والطلاب ورجال الأعمال الصينيين، أصبح "نقطة المقتل".
يقول وايلدر: "كانت عمليات الاستخبارات الصينية ناجحة بشكل مذهل في تزويد الشركات العسكرية وغيرها من الشركات المملوكة للدولة، بأسرار لتمكين القفزات التكنولوجية التي يمكن أن تكون ممكنة من خلال سرقة التكنولوجيا الحساسة المتقدمة من الولايات المتحدة واليابان وأوروبا".
عمل ترمب وحربه التجارية الكثير لتغيير المزاج العام، لكن كثيرا من الخبراء يقولون إن الصين كان من الممكن أن تواجه مناخا أكثر قسوة، بغض النظر عما إذا كان قد فاز ترمب في انتخابات عام 2016.
أحد المجالات القليلة التي تتوحد فيها مواقف الديمقراطيين والجمهوريين، هي ضرورة تبني موقف أكثر صرامة تجاه بكين.
تقول ليندسي فورد، مسؤولة سابقة في البنتاجون في عهد باراك أوباما، إن المسؤولين العسكريين الأمريكيين بدأوا يصبحون أكثر اهتماما بالصين بكثير، في النصف الثاني من إدارة ترمب، عندما بدا أن تشي تخلى عن نهج "الاختباء والانتظار" المتدني، من قبل الزعيم السابق دينج كزياو بينج.
كان هذا الأمر لافتا للنظر تماما في الاستصلاح السريع للأراضي في بحر الصين الجنوبي، حيث تعمد الصين إلى تركيب أنظمة أسلحة في بعض الجزر، على الرغم من تعهد تشي لأوباما في عام 2015 بأن الصين "لا تنوي عسكرة" هذه المناطق.
تقول فورد إن نشاط بحر الصين الجنوبي كان "أوضح إشارة على أن اللعبة بدت وكأنها تغيرت، وأن حسابات الصين حول المخاطرة التي كانت على استعداد لقبولها لم تعد هي نفسها". في الوقت نفسه الذي أصبحت فيه البحرية الصينية أكثر حزما، طورت تكنولوجيات مرتبطة بالأسلحة بوتيرة أسرع بكثير، مما كان يعتقد المحللون الأمريكيون أن من الممكن أن تتوصل الصين بتلك الوتيرة إلى تحقيق مثل ذلك الاختراق.
ما يؤكد على كيفية تقلص الفجوة بين الولايات المتحدة والصين، أن الجنرال بول سيلفا، نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة، حذر في حزيران (يونيو) الماضي، من أنه "إذا جلسنا في الخلف ولم نتصرف، فسوف نفقد تفوقنا التكنولوجي في عام 2020". البنتاجون أيضا يشعر بالقلق إزاء ضعف سلاسل توريده العسكرية، بسبب المكونات المصنوعة في الصين.
واشنطن تدق ناقوس الخطر بشأن الأنشطة التي تستهدف سرقة التكنولوجيا الأمريكية – سواء عبر المواطنين الصينيين الذين يعملون في مختبرات الجامعات الأمريكية أو التجسس السيبراني.
يقول أحد الأشخاص المطلعين على الوضع إن المسؤولين في الولايات المتحدة أدركوا إلى أي مدى يجب أن يكونوا أكثر حذرا، عندما اكتشفوا مدى التشابه بين طائرة الشبح المقاتلة الصينية J-20 والطائرة الأمريكية F-35.
للتصدي لهذا التهديد، صعدت الولايات المتحدة التدقيق بشكل كبير على المواطنين الصينيين الذين يقدمون طلبات لدراسة مواضيع حساسة في أمريكا.
كريستوفر راي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية، حذر العام الماضي الكونجرس من أن الجامعات الأمريكية ساذجة تماما، بشأن احتمال قيام المواطنين الصينيين بجمع معلومات استخباراتية أثناء فترة دراستهم.
جون ديمرز، رئيس مبادرة الصين في وزارة العدل، أخبر اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ أخيرا، أن 90 في المائة من قضايا التجسس الاقتصادي خلال الأعوام السبعة الماضية، كانت تتضمن الصين.
عندما وجهت الولايات المتحدة اتهامات إلى المتسللين في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، قالت إن بكين انتهكت اتفاق عام 2015 الذي ينص على ألا يسرق أي من البلدين الملكية الفكرية من أجل الحصول على مزايا تجارية.
كما تشعر الولايات المتحدة أيضا بالقلق بشأن محاولة الصين تجنيد جواسيس أمريكيين. في بيانه، قال ديمرز إن وزارة العدل لديها ثلاث قضايا "غير مسبوقة" ضد ضباط مخابرات سابقين في الولايات المتحدة، متهمين بالتجسس لصالح الصين.
في أيار (مايو) الماضي، اتهمت الولايات المتحدة عميلا سابقا في وكالة الاستخبارات المركزية اسمه جيري لي، بتهمة حيازة معلومات سرية بشكل غير قانوني.
تعتقد وكالة الاستخبارات المركزية أنه زود بكين بتفاصيل حول عملية تجسس في الصين.
يقول أحد الأشخاص المطلعين على الوضع، إن أفعاله وجهت ضربة كارثية لشبكة وكالة الاستخبارات المركزية – حيث تم اعتقال كثير من الجواسيس أو إعدامهم.
كما تعتقد الولايات المتحدة أيضا أن هجومين من الهجمات السيبرانية الصينية المشتبه بها في الأعوام الأخيرة – واحد على مكتب إدارة شؤون الموظفين التي تحتفظ بسجلات الموظفين الحكوميين، وآخر على مجموعة فنادق ماريوت – كانتا جزءا من عملية تهدف إلى مساعدة الصين، على تحديد عملاء المخابرات الأمريكية السريين في البلاد.
في الوقت الذي تتخذ فيه الولايات المتحدة لهجة أكثر تشددا، تخسر الصين الفئات التي ساعدت فيما مضى على موازنة وجهات النظر الأكثر تشددا في الدوائر الأمنية. الأكاديميون الأمريكيون الذين كانوا يعتبرون ودودين للصين، يصبحون أكثر حذرا الآن، في الوقت الذي تشن فيه بكين حملات لقمع حقوق الإنسان، ولا سيما حقوق أقلية الأيغور المسلمين المحتجزين في مراكز اعتقال جماعية في شينجيانج، وتخفق في الالتزام بالتعهدات الاقتصادية، وتضغط على العلماء الأمريكيين ليكونوا أقل انتقادا، وتتراجع من حيث الإقدام على الإصلاح السياسي.
تقول سوزان شيرك، رئيسة مركز الصين للقرن الحادي والعشرين في جامعة كاليفورنيا في سان دييجو: "هناك أشخاص أعرفهم منذ عقود أصبحوا يائسين من الصين. وهناك وجهة نظر واسعة الانتشار في المجتمع الأكاديمي، مفادها أن التجاوزات التي فعلتها الصين على الصعيدين المحلي والدولي، على حد سواء، هي جزء أساسي من النظام، وليس هناك أي أمل في تغيير سلوكها على نحو يتناسب مع مصالحنا وقيمنا".
نقطة تحول أثارت قلق واشنطن جاءت في أواخر عام 2017 عندما لم يقم الرئيس تشي بتحديد خلف له في مؤتمر الحزب الشيوعي التاسع عشر.
كما تعهد أيضا بأن الصين ستصبح اقتصادا حديثا بالكامل بحلول عام 2035 – اختيار لموعد اعتبره البعض علامة أخرى على أنه ينوي البقاء في السلطة بعد فترة ولايته الثانية، التي تستمر لخمسة أعوام.
في علامة أخرى على تركيز السلطة، وافق مؤتمر الشعب الوطني في آذار (مارس) الماضي، على تغيير في الدستور لإزالة الحد المسموح به لتولي فترتين في الرئاسة.
في الآونة الأخيرة، أثار الرئيس تشي المخاوف بأنه يتراجع عن الإصلاحات الموعودة، عندما استخدم خطابا للاحتفال بانفتاح الاقتصاد الصيني، ألقي قبل 40 عاما للتأكيد على هيمنة الحزب.
وقال في كانون الأول (ديسمبر) الماضي: "لا يوجد أحد في وضع يمكّنه من أن يملي على الشعب الصيني، ما ينبغي وما لا ينبغي القيام به".
مسؤول رفيع المستوى في الإدارة الأمريكية يقول إن الصين أساءت فهم تغيير المزاج في الولايات المتحدة، مضيفا أنهم في الصين: و"بشكل أكثر إثارة للقلق، لا يكترثون".
يقول المسؤول إن حقيقة أن خطاب الرئيس تشي كان يركز على "الدور المتنامي للحزب الشيوعي في كل جانب من جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والشخصية في الصين" تشير إلى أن بكين لم تكن تأخذ المخاوف الأمريكية على محمل الجد.
يقول المسؤول: "أنا لا أرى أي تحول في المسار من قبل القيادة العليا".
يقول بولسون: "لم أعتقد قط أن الصين يمكن أن تطمح لتكون ديمقراطية جيفرسونية أو تتبنى النظام الليبرالي الغربي. دائما ما كنت أعتقد أن الحزب الشيوعي سيكون هو الأول في كل شيء، لكنني لم أكن أتوقع أي محاولة للعودة إلى الماضي".
وتقول شيرك إن أحد الأسباب الرئيسية لرد الفعل الأمريكي المتزايد هو أن مجتمع الأعمال "مستاء بالفعل بشأن الصين".
وتضيف: "في الوقت الحالي، أصبح الأمر غير متوازن للغاية، لأن مخاوف الأمن القومي تهيمن تماما على العملية ومجتمع الأعمال ليس في وضع يدفعه إلى المقاومة".
ريان هاس، مسؤول سابق في البيت الأبيض ويعمل الآن لدى معهد بروكينجز، يقول إن الشركات الأمريكية أصيبت "بإجهاد الوعود".