الأول الآن.. قد يصبح الأخير لاحقا؟!
استحضر الاقتصاديون الغربيون مع اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، المولودة من الأزمة الاقتصادية الأمريكية، عددا من أغنيات بوب ديلان الشاعر والمغني الأمريكي الذي يلقب بـ "الأسطورة"، والتي كتبها في ستينيات القرن الماضي، وذلك للتدليل على عمق الأزمة - الكارثة ليس فقط على المؤسسات المالية والبورصات وغيرها مما يرتبط بهيكلية الاقتصاد، بل على التداعيات الإنسانية والاجتماعية لها. فقد تحدث ديلان في بعض أغانيه، عن مجتمع السماسرة الذي ينال من لقمة العيش، خصوصا عندما تغيب القوانين ومعها الأخلاق عن الساحة. وغنى أيضا كيف يمكن أن يصبح الفرد في المجتمعات غير العادلة، مثل حجر متدحرج، لا يعرف أين سيحط به الرحال (بالمناسبة أخيرت هذه الأغنيةLike A Rolling Stone كأعظم الأغنيات في التاريخ). وكتب ديلان وغنى أيضا عن أن الزمن يتغير، ولا يمكن أن يتوقف عند مرحلة معينة إلى الأبد. فهذه اللحظة ستصبح بعد لحظة تاريخا، والخاسر الآن.. سيكون رابحا لاحقا، لأن الأوقات تتغير. وعندما قال: الأول الآن.. قد يصبح الأخير لاحقا، وجدت مبررا لإسقاط هذا التعبير على حالة الولايات المتحدة الأمريكية. فهذه الأخيرة، لم تواجه الأزمة الاقتصادية العالمية بقدر وزنها كدولة كبرى، وذلك لأسباب كثيرة، في مقدمتها: وجود إدارة لم تستطع أن تفرق بين الظرف الحالي والمستقبل، وبين الاستراتيجية والتكتيك، وبين الرؤية والارتجال، وبين المشكلة والكارثة. كما أنها على مدى سنواتها الثماني، فقدت من هيبتها السياسية والاقتصادية، بقدر ما أضافت دول كالصين والهند وكوريا الجنوبية من هيبة لنفسها. ولم تعي الإدارة الأمريكية أيضا حقيقة المتغيرات الدولية، فقد كانت – ولا تزال – حساباتها غير متوافقة مع متطلبات الواقع. ولذلك فقد دخلت في سلسلة من الأزمات، لو حدثت في بلد مشابه للولايات المتحدة، لأصبحت حكومته خارج الحكم، ولخضعت لمحاسبة سياسية، تمهيدا لكي يقوم التاريخ بمحاسبتها.
عندما كتبت قبل عام تقريبا، بأن الرئيس الأمريكي جورج بوش، لن يترك البيت الأبيض قبل أن "يطمئن" على دخول الاقتصاد العالمي حالة الكساد. كنت وقتها أراقب ذلك التراجع في هيبة الدولة - التي تتصدر قائمة أكبر الدول اقتصادا - والتخبط في صنع القرار السياسي والاقتصادي. وقد تأكد الآن بما لا يدع مجالا للشك، بأن بوش كان بقدر التوقع وخطورته أيضا. فقد قاد سياسة اقتصادية ضمنت نجاحه بفترة رئاسية ثانية، لكنها سرعان ما فشلت في توفير ضمانات للمواطنين الأمريكيين للحفاظ على بيوتهم التي يعيشون فيها. وتسببت هذه السياسة في كارثة اقتصادية عالمية، من الصعب توقع محو آثارها في فترة قريبة، لأن الأضرار لم تصب "الأثاث"، بل نالت من الأساس، وأطاحت بالبناء.
وإذا كان هناك جانب مضيء في عتمة الكارثة، فهو يكمن بولادة فكر اقتصادي جديد، بدأ يتشكل بسرعة لافتة. فقد طرحت الأزمة حقيقة أن القوة الضاربة والحرية المطلقة لاقتصاد السوق، شكلتا تيارا من الصعب السيطرة عليه، تماما مثل ذلك العالم الذي صنع شخصية فرانكشتاين الآلية، وحقق فتحا علميا عظيما، لكنه سرعان ما فقد السيطرة عليه، وبات الرجل المخترع - بفتح الراء - خطرا على المخترع - بكسر الراء - وعلى المجتمع كله.
إن الرأسمالية المالية - رغم ضرورتها - لابد أن تخضع لمعايير المراقبة والمحاسبة والقيود التي توفر الحماية للمجتمع. فكل الذين يؤمنون بهذا النوع من الرأسمالية المطلقة - وفي مقدمتهم رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر- لا يعترفون بدور المجتمع. وما أزال أذكر حوارا صحافيا أجريته في لندن معها في أواخر الثمانينيات، قالت فيه ردا على سؤال حول، واقع المجتمع في فلسفة اقتصاد السوق، أو الرأسمالية المالية: "عن أي مجتمع تتحدث"!. فقد اختصرت في ردها، مفهوم المحافظين المطلق حول المجتمع. ومن المفارقات أن تاتشر خرجت من الحكم قسرا في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وبريطانيا تعيش أكبر حالة كساد اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية، وها هو ذا جورج بوش يستعد للخروج من البيت الأبيض إلى الأبد، وبلاده ومعها غالبية دول العالم في خضم كساد وكارثة اقتصادية لم تحدث منذ الحرب الثانية.
لقد كان الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي صادقا مع نفسه ومع بلاده، وصادقا مع شركائه الأوروبيين - الذين توسلوا للولايات المتحدة في الأيام القليلة الماضية من أجل تنفيذ خطة لإنقاذ الاقتصاد العالمي - عندما تحدث عن نهاية اقتصاد السوق الحر. بل عجل في المطالبة بإصلاح النظام الرأسمالي العالمي، بعدما كشفت الأزمة المالية الحالية عن ثغرات خطيرة في الأنشطة المصرفية العالمية. واستغل ساركوزي رئاسة بلاده لدورة الاتحاد الأوروبي ليطالب دوله البدء بالتفكير في سياسة نقدية جديدة. لقد أظهرت الأزمة - الكارثة العالمية أن التدخل السياسي يجب أن يكون حاضرا على الساحة الاقتصادية، خصوصا عندما تكون القوة الاقتصادية مطلقة. لا أحد يتحدث هنا عن ضرورة أن تمسك الدولة بكل المفاتيح، لأن ذلك سيقوض الحركة الاقتصادية بصورة كبيرة، ويعيدها إلى المربع الأول. لكن المطلوب أن تقوم الدولة بالمراقبة والمحاسبة، وقبل هذا وذلك حماية المجتمع. ومن أجل ذلك أسرعت الحكومة البريطانية العام الماضي بتأميم بنك "نورزن روك"، وقامت قبل أيام بتأميم بنك "برادفورد آند بنجلي"، وكذلك تفعل الحكومة الألمانية، وغيرها من الحكومات الغربية الأخرى.
إن الخطوات الحكومية هذه، تسعى لتحقيق مجموعة من الأهداف. حماية المؤسسات المالية هي أحد هذه الأهداف، لكن حماية المودعين وأصحاب المعاشات على رأسها. لماذا يدفع المدخرون والمودعون ثمن أخطاء ارتكبها مسؤولون ماليون، وسماسرة الأسهم؟!. فالحكومة في مثل هذه الحالة يجب أن تقوم بدور الأب، لا بدور المراقب أو المنقذ فقط.
أمام هذا المشهد، ومع استحقاقات الكارثة العالمية، فإن العالم يشهد الآن تغيرا حقيقيا في الخريطة الاقتصادية، بعيدا عن المعايير التقليدية في التغييرات، وبديهيات اقتصاد السوق. فالكبير فقد هامته، والصغير تضخم حجمه. لأن الأوقات تتغير. أعترف بأن الكوارث تأتي في كل الأزمنة، لكنها تكون أكثر كارثية عندما يكون بطلها كبيرا.