التكنولوجيا المالية من منظور تنظيمي «1من 2»
عندما حصل ألكسندر جراهام بل على براءة اختراع الهاتف في القرن الـ19، كانت وسيلة الاتصال السريعة الوحيدة عبر المسافات الطويلة هي البرْق، أو التليجراف. وقد تجاهلت الشركة الرائدة في هذه السوق اختراع جراهام بل واعتبرته لعبة لا طائل منها، وأعرضت عن فرصة شراء براءته. وبقية القصة معلومة للجميع.
ويتضح لنا من هذه القصة أن الابتكارات التكنولوجية تتسم بطابع مرْبِك وغير محدد المسار. وفي العصر الحالي، يرى بعض المتفائلين أن الأصول المشفرة قد تمثل بداية طفرة مماثلة، بينما يدينها البعض الآخر بأنها لا تتعدى كونها بدعة أو أداة احتيالية. وهذه آراء لا ينبغي أن نتجاهلها ببساطة.
والأصول المشفرة مجرد مثال واحد على كيفية استخدام التكنولوجيا الجديدة في توفير الخدمات المالية - أو التكنولوجيا المالية. ففي الصين وكينيا، أدت نظم الدفع عبر الهاتف المحمول إلى إشراك ملايين المواطنين من غير المتعاملين مع المصارف في النظام المالي. وفي البرازيل ولاتفيا وغيرهما، أتاح الإقراض بين النظراء مصدرا جديدا للائتمان بالنسبة للشركات الصغيرة التي تواجه صعوبة في الاقتراض من المصارف.
وتبشر التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي في مختلف أنحاء العالم بإمكانية الاستفادة بشكل أكبر من البيانات التي أصبحت أكثر وفرة وأوسع انتشارا من أي وقت مضى. وتتضمن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قطاع الخدمات المالية تعزيز الحماية من الاحتيال والامتثال للقواعد التنظيمية، ما قد يزيد من فرص الوصول إلى الخدمات المالية وتعميق الشمول المالي.
وتحمل التكنولوجيا المالية بشائر كبيرة، ولكنها تنطوي على مخاطر أيضا. فلننظر على سبيل المثال في تكنولوجيا دفاتر الحسابات الرقمية الموزعة التي تقوم عليها الأصول المشفرة. فمن شأن هذه التكنولوجيا المساهمة في تسريع وتيرة إجراء المعاملات وتخفيض تكلفتها، بدءا من تداول الأوراق المالية حتى إرسال الأموال إلى الأقارب بالخارج.
ويمكن كذلك استخدامها في تخزين السجلات بشكل آمن، مثل الوثائق الرسمية والصكوك العقارية، والتنفيذ التلقائي لما يسمى العقود الذكية. ولكن من الواضح أن هذه التكنولوجيا تستخدم أيضا في أغراض غير مشروعة.
ولكن ما المفترض أن يكون رد فعل الجهات التنظيمية؟ إن مهمتها ليست سهلة. فمن ناحية، يجب أن توفر الحماية للمستهلكين والمستثمرين من الاحتيال، ومكافحة التهرب الضريبي وغسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وضمان تفهم المخاطر وإدارتها جيدا. ويجب عليها أيضا الحفاظ على سلامة واستقرار النظام المالي.
من ناحية أخرى، يتعين على الجهات التنظيمية مراعاة عدم تقييد روح الابتكار التي تفيد المواطنين بشكل ملائم وقابل للاستمرار. ومن خلال المشاركة البناءة في جهود الأطراف المتعاملة في سوق الابتكارات المالية، يمكن للجهات التنظيمية أن تظل على دراية بمنافع التكنولوجيا الجديدة وتتعرف على المخاطر المستجدة سريعا. ويتعين وضع إطار تنظيمي استشرافي قوامه الابتكار والمرونة والخبرات الجديدة.
الدروس المستمدة من الأزمة
في رأيي أن الأزمة المالية وتبعاتها أفرزت ثلاثة دروس مهمة يمكن أن نسترشد بها في سعينا للحصول على إجابات. الدرس الأول: أن الثقة هي أساس النظام المالي، ولكنه أساس هش يمكن زعزعته بسهولة. فكيف يمكن إذن أن نجني ثمار التكنولوجيا الجديدة مع الحفاظ على الثقة؟
الدرس الثاني: أن المخاطر تتراكم حيثما لا نتوقع. فقد شهدت السنوات التي سبقت الأزمة ظهور أدوات مالية لم تكن مفهومة للمستثمرين بوضوح، مثل التزامات الدين المضمونة بأصول. هل النظام المالي الأقل مركزية أكثر أم أقل استقرارا؟ وهل ستكون المخاطر أكثر انتشارا؟ وهل تراجع دور جهات الوساطة التقليدية يعني زيادة احتمالات عدم اكتشاف المخاطر المستجدة؟ ... يتبع.