الاقتصاد الاسكندنافي .. نموذج نجاح رغم الضرائب المرتفعة
أحد المصطلحات ذائعة الانتشار في علم الاقتصاد مصطلح "النموذج الاسكندنافي"، وذلك في إشارة إلى اقتصادات الدول الاسكندنافية.
وفي الحقيقة فإن كثيرا من الخلط يحدث بين "الاقتصاد الاسكندنافي" و"اقتصاد الشمال" فالاقتصاد الاسكندنافي يضم ثلاث دول ملكية وهي الدنمارك، النرويج والسويد، والدول الثلاث ترتبط بروابط تاريخية وثقافية ولغوية قوية، بينما يعني مصطلح "دول الشمال" الممالك الثلاث، إضافة إلى آيسلندا وفنلندا.
ويرتبط النموذج الاقتصادي الاسكندنافي أو "دول الشمال" بسمات محددة، من أبرزها الرفاهية الاجتماعية لاقتصاد يجمع بين ميزات الرأسمالية، مثل اقتصاد السوق والكفاءة الاقتصادية، وبعض ملامح النظم الاشتراكية الديمقراطية كالاهتمام بالأبعاد الاجتماعية مثل توزيع الدخل بشكل متساوٍ.
فبينما يتم التركيز على الخدمات الاجتماعية العامة فإن النظام الاقتصادي لتلك الدول يعتمد في تمويلها على الضرائب، كما يركز على الاستثمار في التعليم ورعاية الأطفال والخدمات الأخرى المرتبطة برأس المال البشري، إضافة إلى حماية قوية للقوى العاملة من خلال النقابات وشبكة الأمان الاجتماعي.
ويعد الدكتور هكسلي سبنسر، أستاذ النظم الاقتصادية في جامعة جلاسكو أن الميزة الرئيسة للنموذج الاسكندنافي، ترتبط بالقبول الشعبي لمعدلات ضريبية مرتفعة في ظل ثقة في الإنفاق الحكومي.
ويقول لـ"الاقتصادية" إن "النظام الضريبي يتسم بدرجة عالية من العدالة، ويوجد في تلك الدول بعض من أعلى معدلات الضرائب في العالم، ومؤسسات الضرائب هناك تشير إلى أن الإيرادات الضريبية كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي ومن ضرائب الدخل الفردي وضرائب الرواتب تصل في مملكة الدنمارك إلى 26.4 في المائة، وفي النرويج 19.7 في المائة، والسويد 22.1 في المائة مقارنة بـ15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الذي حصلت عليه الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة من خلال ضرائب الدخل الفردية وضرائب الرواتب".
ويضيف "على سبيل المثال أعلى معدل ضريبة دخل في الدنمارك هو 60.4 في المائة وفي السويد 56.4 في المائة والنرويج 39 في المائة، ومن ثم الضرائب في هذا النموذج مرتفعة على كل الدخل وليس على الأثرياء فقط".
وأكد أنه في المقابل يتمتع المجتمع بدرجة عالية من الرفاهية الاجتماعية، وشبكة واسعة النطاق وقوية من الأمان الاجتماعي لمساعدة المواطنين على التكيف مع التغيرات في الاقتصاد الكلي الناجم عن زيادة المنافسة العالمية على السلع والخدمات.
وعلى الرغم من الجدل الدائر بين الاقتصاديين حول كيفية تصنيف اقتصادات دول الشمال أو الدول الاسكندنافية، وهل يتم إدراجها ضمن الاقتصاد الرأسمالي أو النظر اليها بحسبانها اقتصادا رأسماليا بملامح اشتراكية، فإن الأمر الأكثر واقعية أننا أمام نموذج لاقتصاد مختلط دون أن يحمل الملامح الكلاسيكية لهذا الاختلاط.
والآلية الاقتصادية الأساسية في تلك الدول تعتمد على القيم الرأسمالية والأسواق المالية والمنافسة الحرة وليس التخطيط المركزي، ومع أن الدولة تلعب دورا استراتيجيا في الاقتصاد، فإن المنظومة القانونية تحمي الممتلكات الشخصية والشركات الخاصة، كما أن الدول الخمس تعد من بين الدول الأكثر مساواة من حيث توزيع الدخل، ويتضح أيضا الحرص الشديد على معدلات الرفاة والتنمية، حيث تحتل النرويج والدنمارك المرتبة الأولى والخامسة في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، وتعد الدنمارك، فنلندا، النرويج، والسويد من بين الدول الست الأقل فسادا في العالم، في الوقت الذي تحتل فيه المملكة المتحدة المرتبة العاشرة، والولايات المتحدة المرتبة الـ18.
ويرى الباحث في الشؤون الأوروبية توماس كونراد أن أسباب النجاح الاقتصادي للنموذج الاسكندنافي، ربما تكمن في عوامل تقع خارج النطاق الاقتصادي المحض، وإنما ترتبط أكثر بالقيم الثقافية السائدة في المجتمع.
ويقول لـ"الاقتصادية"، إن "التعاون المجتمعي القوي والمسؤولية الشخصية، والعقلية المؤيدة للمجتمع، هي أساس نجاح نموذج دول الشمال عامة والاسكندنافية على وجه الخصوص".
ويشير إلى أن المرونة هي أحد الملامح الأساسية في هذا النموذج الثقافي - الاقتصادي، حيث نشأت مجموعة من التحديات أمام الدول الاسكندنافية في أعقاب الاقتصاد الرقمي والعولمة، وكذلك مع تفاقم أزمة الهجرة، إلا أن المرونة التي اتسم بها النموذج الثقافي – الاقتصادي، عبر ترسيخ الأفكار والأخلاقيات التعاونية، أسهم في نجاح تلك المجتمعات في إيجاد توازن قوي بين التعاون والمنافسة في آن معا.
مع هذا يحذر بعض الخبراء من أن النجاح المميز لهذا النموذج يواجه تحديات تبرز تدريجيا. فقد اعتمدت النجاحات الاقتصادية لتلك الدول على الصناعات الاستخراجية في الأساس، سواء كان ذلك في النرويج حيث تزدهر صناعة النفط أو خام الحديد في السويد أو قطع الغابات في فنلندا.
ومع تزايد الوعي الدولي بالقضايا البيئية فإن تلك الدول يتوقع أن تكون تحت ضغط عالمي فيما يتعلق بالانبعاثات الكربونية، وهو ما يمثل عنصرا ضاغطا على الصناعات الرئيسة فيها، خاصة إذا أخذ في الحسبان أن بعض الدول الاسكندنافية تحتل مرتبة عالية جدا فيما يتعلق بنصيب الفرد من الانبعاثات الكربونية، فالنرويج تحتل المرتبة الـ24 عالميا وفنلندا 26.
من جانب آخر ونظرا للطبيعة المناخية القاسية لتلك الدول، والبرد القارص لفترات طويلة من السنة، فإن طاقتها الإنتاجية الغذائية صغيرة، ما يؤدي إلى استيراد نسبة كبيرة من المواد الغذائية وغيرها من السلع، وقد بات ذلك يمثل تحديا متزايدا للاقتصاد الوطني مع تنامي المنافسة الدولية على المواد الغذائية نتيجة ارتفاع مستويات المعيشة في دول مثل الصين والهند، ما يزيد الطلب العالمي على الغذاء بصفة عامة.
ولكن تلك التحديات وعلى الرغم ما قد تشكله من تهديد على الأمد الطويل للنموذج الاسكندنافي، لا تنفي ما تصفه به الاستشارية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية جورجي استون بـ"أننا أمام نموذج متفرد في ملامحه".
وتقول لـ"الاقتصادية"، "لقد نجحت الدول الاسكندنافية في تحقيق مستويات عالية للغاية من الرفاهية، إلى جانب مستويات مرتفعة من الإنتاج الاقتصادي تقارن بشكل جيد مع البلدان المتقدمة الأخرى، نتيجة مستويات عالية نسبيا من التضامن الاجتماعي والضرائب".
وتضيف "لكن يجب أن نأخذ في الحسبان أن تلك الدول صغيرة ومتجانسة عرقيا وثقافيا، وسهلت تلك الشروط الخاصة مع مستويات عالية من الثقة والتعاون والاستعداد الشعبي لدفع مستويات أعلى من المتوسط من الضرائب في نجاح التجربة".
لكن وجهة النظر تلك تدفع بعضهم إلى التشكك في إمكانية تصدير سياسات الدول الاسكندنافية أو النمط المؤسسي لها إلى دول أخرى، أكثر تنوعا من حيث الثقافات والأعراق، بل إن الدكتور هكسلي سبنسر أستاذ النظم الاقتصادية في جامعة أدنبرة يرى أن تصدير هذا النموذج قد يوجد تحديات كبيرة، تتمثل في ضرورة توفر إمكانيات استثنائية لتعزيز الثقة وبناء التوافق.
لكنه مع ذلك يشير لإمكانية الاستفادة من بعض الملامح المميزة لتلك التجربة الفريدة، خاصة ما يتعلق بالتعاون المجتمعي، وتعظيم المنفعة العامة من الضرائب، بما يوجد شعورا عاما في المجتمع بأهمية العمل ضمن الأطر القانونية لتحقيق أعلى درجات الرفاهية العامة.