"جائزة التفاحة الذهبية" للأستاذ المتميز

في كثير من اللقاء مع أساتذة الجامعات، وعند الحديث عن أسباب ضعف التحصيل العلمي هذه السنوات، يلقون باللائمة بالدرجة الأولى على طالب اليوم، وتشتت فكره وانشغالاته الكثيرة وضعف تأسيسه في مراحل التعليم العام. وعندما تحسس المشكلة من وجهة نظر الطلبة لا يترددون في إلقاء اللوم على بعض الأساتذة الذين، وحسب تعبير الطلبة، "كرهوهم" في الدراسة بسبب تعاملهم السلبي أو الجاف أو المجحف مع الطلبة، أو بسبب عدم انتظامهم في المحاضرات أو بتحويل مهام التحصيل العلمي بشكل كامل على الطالب عن طريق كثرة الواجبات والاختبارات والمشاريع من دون بذل الجهد اللازم لتدريس المواد بشكل متميز وجذاب ومتفاعل. وعلى كل حال فقد يكون للطرفين سبب في المشكلة، ورغم الجهود المبذولة لحل مثل هذه المشاكل، إلا أني في هذه المقالة لا أود الخوض في ظروف الطالب الجامعي والبيئة المحيطة به وحل مشاكله، بل لعلي أتحدث عن أهمية أن تميز الأساتذة في العملية التدريسية ونشاطهم داخل الفصل والتحضير المحكم له، إضافة إلى نشاطاتهم البحثية.
رغم أنه غالبا ما يُطلق على الجامعات المُتقدمة صفة "جامعات بحثية"، وذلك بتوجه هذه الجامعات نحو توليد المعرفة من خلال التركيز على نشاطات البحث العلمي فيها، إلا أن لرئيس جامعة كاليفورنيا - فرع بيركلي، "، روبرت بيرجينو، رأياً آخر في هذا المجال. وتُعتبر جامعة كاليفورنيا في بيركلي، بين أهم جامعات العالم. كما يُعتبر رئيسها بيرجينو بين أكثر رؤساء الجامعات خبرة، فقد كان لسنوات طويلة أستاذاً في معهد ماساشوستس الأمريكي المتميز، ثُم رئيساً لجامعة تورنتو الكندية المعروفة، قبل أن يأتي رئيساً لبيركلي.
يقول بيرجينو في مُحاضرة عامة ألقاها في جامعته عام 2006، إن التركيز على الصفة البحثية لجامعته لا يسره، فالتميز البحثي للجامعة لا يكفي، ولا بُد من التميز التدريسي أيضاً. وعلى ذلك فالجامعة المُتقدمة في رأيه هي الجامعة التي تهتم بالتدريس والبحث العلمي معاً، لا يهواها البحث فتهمل التدريس، ولا يهواها التدريس فتهمل البحث. وعلى ذلك يسر بيرجينو أن توصف جامعته بأنها ناجحة تدريسياً وبحثياً، وليس ناجحة بحثياً فقط.
ويُمثل أساتذة الجامعات وسيلتها الرئيسة في تنفيذ وتفعيل كل من نشاطاتها التدريسية الساعية لنشر المعرفة، ونشاطاتها البحثية العاملة على توليدها. لكن هؤلاء الأساتذة يختلفون في إمكاناتهم وتوجهاتهم التدريسية والبحثية. صحيح أن عدداً منهم ينجحون في الاثنين معاً، إلا أن الصحيح أيضاً أن عدداً آخر منهم يهوى التدريس وينجح فيه بدرجة أعلى، وعدداً ثالثاً يهوى البحث العلمي وينجح فيه بشكل أفضل. وعلى الجامعات أن تستغل طاقات جميع الأساتذة وتشجعهم وتحفزهم على التميز في النشاط الذي يُناسب إمكاناتهم، ويخدم نشاطات الجامعة التدريسية والبحثية.
هناك من يقول بضرورة أن يكون التدريس في الجامعات مُدعماً بعقلية بحثية، بمعنى أن يكون التدريس مُؤسساً على البحث العلمي. وهذا بلا شك صحيح، بل وصحيح للغاية في الدراسات العليا، وفي المقررات المُتقدمة من مرحلة البكالوريوس، لكنه صحيح بحدود في إطار المقررات الجامعية التأسيسية العامة منها والتخصصية. والحدود هنا أن المقررات التأسيسية هي تلك التي يأخذها الطالب في بداية دراسته الجامعية، وهي التي تُشكل الأساس الذي تُبنى عليه الدراسة المُتقدمة. لذا لا بُد لهذه المقررات من أستاذ مُتميز "تدريسياً" يستفيد منه الطلبة في فهم الأسس واستيعابها، كي يستطيعوا الانطلاق بثقة نحو المزيد.
ولا يعني التدريس الناجح لمقررات التأسيس البعد عن عقلية البحث العلمي، بل على العكس من ذلك. فالمدرس الناجح لا يقوم فقط بتقديم ما لديه، بل يُشجع الطلبة على التفاعل والحوار وإبداء الرأي. وهذا ما يُحفز الطلبة على التفكير وتقديم التساؤلات، كما يُعزز فهمهم للقضايا المطروحة، في بيئة حرة ولكن مُنضبطة أيضاً. فكثيراً ما تكون علاقة المدرس الناجح مع الطلبة علاقة حميمة يسودها الاحترام والاهتمام المُتبادل. وغالباً ما نرى الطلبة يهتمون بإيجابية بمقرر المدرس المتميز أكثر من اهتمامهم بمقرر المدرس الأقل تميزاً.
ولكن كيف يُمكن تحديد مدى نجاح الأستاذ الجامعي تدريسياً. إن المُقيّم الرئيسي للنجاح التدريسي للأستاذ الجامعي هو الطالب. وهذا ما يجب أن تدركه جامعاتنا وتعمل به، لا أن تعتمد على آراء زملاء هذا الأستاذ، فهو ليس أستاذهم، أو على ثقته الشخصية بنفسه وادعائه التميز في التدريس، كما فعلت بعض جامعاتنا في الماضي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الطلبة هم الذين يقيمون الأساتذة في كثير من الجامعات، بل ويمنحونهم شهادات ودروع التميز التدريسي.
من الأمثلة على ما سبق، يتبيّن أن طلبة جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وليس إدارتها أو رئيسها، يمنحون جائزة تقديرية سنوية للأستاذ المتميز تدريسياً، تُدعى "جائزة التفاحة الذهبية"Golden Apple .

وإذا كانت جامعاتنا تُركز في تقييمها للأساتذة وترقيتهم على عامل البحث العلمي بالدرجة الأولى، فإن عليها أن تهتم أيضاً بالعامل التدريسي. وعليها كذلك أن تُعطي لطلبتها فرصة تقييم التميز التدريسي لأساتذتهم، أو على الأقل المُشاركة فيه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي