دور السوق في مواجهة التحديات المستقبلية «2 من 3»
تصنع جميع هذه التغيرات بيئة زاخرة بالتحديات بالنسبة للصندوق الذي يتغير هو الآخر وبالفعل فإن السمة التي طالما لازمت الصندوق تكمن في قدرته على التأقلم مع التغيرات المتتالية التي يشهدها العالم. ويعكس ذلك جزئيا المهارات الرفيعة التي يتمتع بها خبراء الصندوق وإدارته العليا التي عادة ما تضم أعضاء أكفاء.
غير أن الصندوق تعوقه أيضا قدرته المحدودة على التأثير في الإجراءات التي تتخذها البلدان ذات موازين المدفوعات القوية أو الولايات المتحدة المصدرة للدولار الأمريكي الذي يمثل عملة الاحتياطيات العالمية. وهذه ليست بالقضية الجديدة، فقد اعترف بها مؤتمر بريتون وودز عام 1944 ولم تحل حتى الآن ويرتكب الصندوق أخطاء هو الآخر، ولا سيما بسبب تأثره بالفكر التقليدي للاقتصاديين المختصين والبلدان القوية. فقد أخفق في تقدير مخاطر التحرير المالي حق قدرها، سواء داخل البلدان أو خارجها. وحدث ذلك رغم تحذيرات راجورام راجان، المستشار الاقتصادي للصندوق خلال الفترة من2003 - 2006 التي ثبتت صحتها لاحقا.
لكن من المعقول أن نتوقع أن يتعلم الصندوق من أخطائه. وقد فعل ذلك من قبل. ففي أعقاب الأزمة التي وقعت عبر المحيط الأطلنطي، أعاد الصندوق تقييم أثر تخفيض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب في النمو. كذلك تحسنت جودة رقابته على المخاطر المالية بدرجة كبيرة، سواء في تقريريه البارزين، وهما تقرير الاستقرار المالي العالمي وتقرير آفاق الاقتصاد العالمي، أو في سياق عمله على البلدان الأعضاء وفي خطوة مهمة اعترف الصندوق بأن تحرير التدفقات الرأسمالية عبر الحدود له مخاطره ومنافعه أيضا.
ولم تكن هناك إشكالية أكبر من أزمة منطقة اليورو فقد وضعت الصندوق في موقف صعب اضطرته إلى التعامل مع بنك مركزي وبلدان لا تخضع لسيطرته. وعمل الصندوق مع مؤسسات منطقة اليورو على برامج قُطرية نجحت إلى حد ما لكنها انطوت أيضا على أوجه قصور ملحوظة، ولا سيما في حالة اليونان. ونتج عن ذلك أيضا إصلاح إطار الإقراض الذي يطبقه الصندوق على البلدان ذات المديونية السيادية المرتفعة، وإلغاء الإعفاءات في حالة الأزمات النظامية من إجراء التقييم الإلزامي لاستمرارية القدرة على تحمل الدين كشرط للحصول على دعم الصندوق.
وتجدر الإشارة أيضا إلى زيادة تعاون الصندوق مع الدول الهشة ويتطلب ذلك تطبيق نهج جديدة ومبتكرة الضمان لتحقيق التحول السياسي والمؤسسي اللازم.
وكانت هذه الخطوات بمنزلة تحديث الجدول أعمال الصندوق الذي كان يهدف من خلاله إلى الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي الكلي. وانخرط الصندوق كذلك في عدد من التحديات الجديدة، مثل عدم المساواة في توزيع الدخل والثروات، وعدم المساواة بين الجنسين، والفساد، وتغير المناخ وتخرج هذه التحديات عن اختصاصات الصندوق السابقة. لكنها مهمة في حد ذاتها وبالنسبة لجماعات التأييد المهمة في البلدان الأعضاء، كما أن لها انعكاسات اقتصادية كلية مهمة.
وقد يكون من المفيد تصدير صورة أقل صرامة عن الصندوق ولا سيما في ظل بيئة سياسية صحية بالنسبة للمؤسسات المالية الدولية. كذلك كان عمل الصندوق ضروريا في بعض الجوانب ولا سيما دعم الوقود الأحفوري وتكلفة الفساد.
يتطلب استمرار العولمة التعاونية والحفاظ على دور الصندوق فيها إجراء تعديلات شاملة. وبعض هذه التعديلات يقع في نطاق سيطرة الصندوق والبعض الآخر يتطلب إيجاد توافق عالمي جديد.
وتتمثل إحدى المهام الداخلية الكبرى في فهم التحديات الفكرية التي يواجهها اقتصادنا العالمي غير المستقر. وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة إعادة النظر في السياسات النقدية والمالية العامة والهيكلية على مستوى العالم عموما وفي البلدان المؤثرة، وذلك في ظل أسعار الفائدة شديدة الانخفاض ومعدلات التضخم المنخفضة وارتفاع حجم الديون المفرطة والكساد طويل الأجل. فما الإجراءات التي يتعين على صناع السياسات اتخاذها في مواجهة الهبوط الاقتصادي المقبل؟ وكيف ستدار عملية إعادة الهيكلة الشاملة للدين الخاص أو السيادي إذا ما أمكن تنفيذها؟ وهل ثبتت فعالية أي من المفاهيم غير التقليدية، مثل "النظرية النقدية الجديدة"؟ على الصندوق الانخراط بشكل أعمق في دراسة هذه الموضوعات استعدادا لمواجهة التحديات المستقبلية وفي مجالات صعبة أخرى أيضا، مثل الاقتصاد السياسي للموجة الحمائية، وأثر الذكاء الاصطناعي... يتبع.