الصمت سلاح «الفيدرالي الأمريكي» في مواجهة دعوات ترمب المحمومة لتبني «الفائدة السلبية»
لا يزال الخلاف قائما بين الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وجيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، حول أسعار الفائدة. فكلما حان للرئيس فرصة لمهاجمة "الفيدرالي الأمريكي" وسياسته بشأن أسعار الفائدة لم يتوان في إضاعتها.
فترمب يرى أن أسعار الفائدة الراهنة مرتفعة، وتعوق خطته لتحقيق معدلات نمو كبيرة، وتضعف القدرة التنافسية للولايات المتحدة في مواجهة منافسيها، وتعوق رجال الأعمال الأمريكيين على الاقتراض وتوسيع أعمالهم، ومن ثم زيادة معدلات التوظيف وخفض البطالة.
وعلى الضفة الأخرى يلتزم الفيدرالي الأمريكي "الصمت" في أغلب الأحيان، ليتفادى الدخول في جدل مع الرئيس، لكنه يصر في الوقت ذاته على مواصلة سياسته الراهنة بخصوص أسعار الفائدة، مبررا ذلك بتناسبها مع المعطيات الراهنة للاقتصاد الأمريكي، كما أنها تصب في مصلحة المستهلك الأمريكي ورجال الأعمال في آن، وتعزز من قدرات الولايات المتحدة الاقتصادية.
أسعار الفائدة السلبية هي الكلمة المحورية في حديث ترمب بشأن الفائدة الأمريكية، ودعوته المحمومة لرئيس مجلس الاحتياطي، لدفعه في ذلك الاتجاه. وفي الواقع، فإن أول من طبق مفهوم الفائدة السلبية كان البنك المركزي السويسري في سبعينيات القرن الماضي، لتعزيز قيمة الفرنك في مواجهة العملات الدولية الأخرى، لأن أسعار الفائدة السلبية ستجعل الفرنك السويسري عملة غير مرغوب في شرائها، وسينخفض الطلب والمضاربة عليها لأنه وباختصار لن يكون في مصلحتك شراء الفرنك وإيداعه في البنك، فذلك لن يعود عليك بأي فائدة، وفي الحقيقية ستكون من الخاسرين، لأن عليك أن تدفع للبنك بعض المال (فائدة) مقابل إيداع الفرنك لديه.
ولكن المفهوم بات أكثر إثارة للجدل والنقاش مع الأزمة المالية عام 2008، وذلك عندما لجأ البنك المركزي السويدي في تموز (يوليو) عام 2009، إلى خفض سعر الفائدة بين ليلة وضحاها تحسبا للتصدي لما يعرف بالأموال الساخنة، التي تسعى إلى الاستفادة من المضاربة السريعة ثم الانسحاب السريع أيضا من الاقتصاد.
يبدو مفهوم الفائدة السلبية غير تقليدي وغير شائع التطبيق في عالم الاقتصاد، فأسعار الفائدة، وفقا للتعريف الاقتصادي الكلاسيكي هي، (السعر الذي يدفعه البنك المركزي على إيداعات البنوك التجارية، سواء كان استثمارا لمدة ليلة واحدة أم لمدة شهر أو أكثر)، لكن بنقيض هذا التعريف فإنه في حال الفائدة السلبية، يقوم البنك المركزي بخفض نسبة الفائدة إلى ما دون الصفر بحيث يكون على البنوك، التي تودع أموالها لدى البنك المركزي، أن تدفع له مقابل إيداع أموالها لديه، وقد يبدو هذا المنطق في عالم المال والأعمال غريبا وغير واقعي، فما الذي يدفع بنكا من البنوك إلى إيداع 100 مليون دولار مثلا لمدة عام وديعة في البنك المركزي بسعر فائدة (-5) في المائة، ثم يدفع أيضا للبنك المركزي بعد نهاية العام خمسة ملايين دولار فائدة.
بالطبع قد تكون تلك السياسة مفيدة في فترات الانكماش، إذ تدفع بالبنوك إلى تفادي وضع الأموال كاحتياطيات في البنك المركزي، وإنما إقراضها للراغبين بأسعار فائدة منخفضة.
وقال لـ"الاقتصادية" ال. دي سيمون، الخبير المصرفي في مجموعة لويدز المصرفية: "أسعار الفائدة السلبية تمثل حافزا لرجال الأعمال للاقتراض والاستثمار، لكن في الحالة الأمريكية الراهنة لا يوجد مبرر لهذا الإجراء، فأسعار الفائدة السلبية التي طبقتها اليابان وعدد من الدول الأوروبية أدت إلى ديون قيمتها 9.7 تريليون دولار أمريكي في عام 2017، ولم تفلح كثيرا في إنعاش تلك الاقتصادات".
ويعتقد سيمون، أن الفيدرالي الأمريكي لن يقبل بأفكار ترمب. فمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يمكن النظر إليه باعتباره "البنك المركزي العالمي"، نظرا للدور الذي يلعبه الدولار في الاقتصاد العالمي، سواء في التجارة الدولية أو الاستثمار، وكذلك باعتباره العملة الرئيسة في احتياطي البنوك المركزية في العالم، والقبول بدعوات ترمب يبعث برسالة شديدة السلبية لرؤوس الأموال الأمريكية والدولية على حد سواء، بأن الاقتصاد الدولي معرض لخطر الوقوع في دوامة انكماشية، وقد يصنع ذلك مناخا سلبيا، يؤدي بالفعل إلى الانكماش فعلا، فإذا سادت تلك القناعات، يميل الأشخاص والشركات إلى الاحتفاظ بأموالهم انتظارا لتحسن الاقتصاد، وهذا السلوك يضعف الاقتصاد أكثر، لأن نقص الإنفاق يؤدي إلى فقدان مزيد من الوظائف، ويخفض الأرباح.
لكن تلك الاعتراضات على الفائدة السلبية لا تنفي أن حديث الرئيس ينطوي على جزء من الحقيقة، فمنافسو الولايات، خاصة الأوروبيين واليابانيين يعتمدون على الفائدة السلبية لتحفيز اقتصادهم، وهو ما يدفع ترمب بوصفه رجل أعمال قبل أن يكون رئيسا للولايات المتحدة إلى الشعور بأن المنافسة لا تصب في مصلحة رجال الأعمال الأمريكيين.
فاليوم يوجد نحو 16 تريليون دولار من الأوراق المالية الحكومية السلبية في جميع أنحاء العالم، وفي أيلول (سبتمبر) الماضي قام البنك المركزي الأوروبي بخفض سعر الفائدة بمقدار عشر نقاط أساس إلى مستوى قياسي منخفض بلغ -0.5 في المائة في 12 سبتمبر الماضي، وطلب إضافة جديدة من التيسير الكمي بمبلغ 20 مليار دولار لشراء السندات وغيرها من الأصول المالية على أن يتم ذلك في شهر نوفمبر الجاري.
وتبنت ألمانيا مفهوم أسعار الفائدة السلبية، نتيجة الشعور بأنها على وشك الدخول في مرحلة الركود الاقتصادي، ما دفعها إلى خفض أسعار الفائدة طويلة الأمد، وذلك في منتصف هذا العام إلى (-0.31 في المائة)، ونظرا لضرورة تمويل الحكومة، قام البنك المركزي الألماني في 18 أغسطس الماضي، بطرح سندات خزانة طويلة الأمد لمدة 30 عاما بقيمة ملياري يورو بأسعار فائدة سلبية!
بما يعني أن كل شخص سيقوم بعملية شراء تلك السندات، يعلم مقدما بأنه في نهاية المطاف سيخسر جزءا من أمواله، ليس باعتبار ذلك احتمالا، ولكن باعتبار ذلك أمرا مؤكدا لا فرار منه، وذلك حتى دون أن يأخذ في الحسبان الارتفاع المتوقع لمعدلات التضخم خلال تلك الأعوام، ولم تفلح الحكومة إلا في بيع سندات بقيمة 869 مليون يورو، وكان عليها شراء ما تبقى.
من جانبه، يعتقد الدكتور سميث دين، أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة بروملي، أن دعوات الرئيس ترمب للفائدة السلبية لها ما يبررها.
ولـ"الاقتصادية" يعلق قائلا "لا يمكن وصف الاقتصاد الأمريكي بأنه في حالة انكماش أو ركود، ولذلك يغيب المبرر الكلاسيكي للفائدة السلبية، ولكن في كثير من الأحيان لا يمكن تحقيق نمو مرض، يستمر لفترة طويلة، إلا من خلال ظروف مالية استثنائية وغير مستدامة، وهذا ما يدور في ذهن ترمب، عندما يتحدث عن الفائدة السلبية، إضافة إلى ذلك فإن أسعار الفائدة المنخفضة ستمكن الإدارة الأمريكية من التصدي لمشكلة الدين الحكومي المتزايد، إذ ستخفض قيمة الفوائد، التي تدفعها الحكومة الأمريكية على ديونها".
ويضيف "التوترات التجارية ربما تكون سببا آخر مباشرا في دفع ترمب إلى الضغط على الفيدرالي من أجل أسعار فائدة سلبية، ولكن المرجح الآن أنه حتى وإن فشل في إقناع الفيدرالي بوجهة نظره المؤيدة لأسعار الفائدة السلبية، فإن الفائدة ستتجه إلى الانخفاض في الولايات المتحدة".
لا شك أن جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، يتفهم مطالب الرئيس، إلا أن القبول بها قضية أخرى، فقد صرح مرارا وتكرارا بأنه يريد تجنب أسعار الفائدة الصفرية، كما صرح للصحافيين "لا أعتقد أننا سننظر في استخدام أسعار الفائدة السلبية".
إذ إن ما يروج له ترمب باعتباره حجر زاوية لمزيد من معدلات النمو المرتفعة، لا يلقى قبولا لدى جيروم باول ومساعديه، فهناك كثير من عدم اليقين بشأن تأثير المعدلات السلبية للفائدة، ولا يوجد يقين فيما يتعلق بردود فعل الأفراد والشركات، فأحد الاحتمالات، التي يتحدث عنها الفيدرالي الأمريكي، إمكانية أن يواصل الأفراد والشركات انتظار انخفاض معدلات الرهن العقاري أو معدلات الاقتراض، ما يدفعهم إلى التوقف عن الاستثمار في القطاع العقاري أو الاقتراض من البنوك انتظارا للتخفيضات المستقبلية القادمة في الطريق.
بدوره قال آدم موربورج، الخبير الاقتصادي السابق في وكالة موديز للتصنيف الائتماني، "هامش التحرك المتاح للفيدرالي الأمريكي للتحرك بشأن أسعار الفائدة الإيجابية ليس كبيرا للغاية، أما بالنسبة للفائدة السلبية وهو ما لم يحدث في التاريخ الأمريكي من قبل، فيجب أن نأخذ في الحسبان أن كون الإقراض أقل ربحية للبنوك، فسيكون عليها زيادة الدخل القائم على الرسوم، مثل رسوم إدارة الثروات والرهن العقاري، وكذلك على مراجعة الحساب والسحب على المكشوف والسحب من أجهزة الصراف الآلي خارج أجهزة البنك، بل وزيادة رسوم التحويلات المالية، بمعنى آخر ستلتف البنوك على الفائدة السلبية، وستجد طرقا أخرى لكسب المال، وسيدفع المستهلك أكثر للبنك في شكل رسوم أعلى.
ويعتقد موربورج، أن تقديرات 75 في المائة من الاقتصاديين تشير إلى دخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة الركود بحلول 2021، ومن ثم القبول بوجهه نظر الرئيس ترمب قد تعني انتقال عديد من رؤوس الأموال المودعة في البنوك الأمريكية إلى الاقتصادات ذات أسعار الفائدة المرتفعة، ما يفاقم الوضع ويجعله أكثر تأزما.
ويحذر موربورج من خطورة الفائدة السلبية على الاقتصاد الأمريكي في الوقت الحالي ويقول: "بالنسبة لرئيس كترمب ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، ورغبته في الفوز بجولة رئاسية أخرى، فإن أسعار الفائدة السلبية ستحفز الإدارة الأمريكية على الاقتراض، بمعدلات كبيرة لإنعاش الاقتصاد لضمان التصويت للرئيس، وهذا سيترك بصمات سلبية للغاية على الاقتصاد الأمريكي الكلي".
وإلى أي مدى يمكن أن يقاوم جيروم باول ضغوط ترمب، لا أحد يمتلك الإجابة غير جيروم باول، فمعدلات الفائدة في الاقتصاد الأمريكي قد تصبح سلبية أو لا تصبح، ولكن المؤكد في كلتا الحالتين ستؤثر بشدة في مسار الاقتصاد العالمي.