ثقافة الحوار .. الأدب
على المُحاور أن يوطِّن نفسه ويُروِّضها على الإخلاص لله في كل ما يأتي وما يذر في ميدان الحوار وحلبته، ومن ذلك أن يدفع عن نفسه حب الظهور والتميُّز على الأقران، وإظهار البراعة وعمق الثقافة، والتعالي على النظراء والأنداد، خاصة أن قَصْدَ انتزاع الإعجاب والثناء واستجلاب المديح ابتداء وانتهاء مُفسد للنية وللعمل، وصارف عن الغاية.
ومن الآداب ألا يستنكف المتحاور من قبول الحق ولو جاء ممن هو دونه علماً أو سناً أو قدراً، ومن الرجوع للحق بعد أن يتبين له؛ وقد أرشد القرآن إلى أن ابن آدم الأول تعلم من غُراب: كيف يواري سوأه .. أخيه؟!، كما أن سليمان - عليه السلام - تعلم من الهدهد ما لم يكن يعلمه: ?فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ? النمل (21).
وقد قال الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه – يرشد قاضيه: "ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
ولقد أثبتت التجارب أن التواضع فضيلة تهدي صاحبها للحق، وأما الكبر والغرور بالنفس والإعجاب بها، فيصد عن الحق البين الظاهر، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (الكبرُ بطر الحق وغمط الناس) ( )، وبطر الحق رده والإعراض عنه؛ كما أخبر الخالق - عز وجل - أن معصية إبليس كان الدافع إليها الكبر والغرور، قال تعالى : ?وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ? ( البقرة: 34)، ولما سأله الله - عز وجل - عن السبب قال معجباً: ?قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ? (الأعراف: 12). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه الباطل دون ما فيه من الحق"، ولا يكون الحوار مثمراً في مجال معرفة الحق إلا إذا كان قائماً على الأدلة والبراهين، ولقد علمنا الإسلام في مجال إحقاق الحق أن نتحاور مع الآخرين وفق قاعدة: ?قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ? (البقرة: 111) فالمحاور المسلم لا يصدر في نشدان الحق عن طلب المغالبة غروراً، أو الجدال بالباطل، كما أنه لا يقبل الدخول في الجدال المذموم عند إثارة أية فكرة أمامه، فذلك عبث وجهد ضائع، ويوجه الحوار إلى الفكرة التي تظهر الحق وتساعد على بناء حياة كريمة قائمة على مد الجسور بين البشر وصولاً إلى ما فيه الخير والنفع.
ومما ينبغي للمحاور أن يتجنب الشدة والعنف ومجاوزة حد الاعتدال، والأخذ باللين وكثيراًَ ما يفضي الحوار إلى خصومات وعداوة، ثم التنابز وتبادل الاتهام، وأَنْسَتِ المتحاورين قضاياهم، وشغلتهم بشخصياتهم، وكثيرًا ما انتهت حوارات إلى الرمي بالكفر أو الفسوق أو الإلحاد، وضياع الحق وطمس معالمه، وبقاء الناس في حيرتهم لا يعرفون الهدى، ولا يهتدون إلى الصواب. ومن هنا نفهم الحكمة البالغة في قول رسول الله ?: (إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إلى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ)، والأَلَدُّ: الخَصِمُ الجَدِلُ الذي لا يزيغ إلى الحق ... الشديد الخصومة.
ومهما يكن من شيء، فإن الحوار لون من ألوان الدعوة والبيان، ومناقشة الأفكار ومحاولة راقية للفهم والمعرفة، ومن ثم فهو جلسة علم وتعلم وليس جلسة تصارع وتنافر، والقول اللين من لوازمه مهما كان حال الطرف المحاور، قال تعالى لنبيه موسى – عليه السلام – وهو يرسله إلى مدعي الربوبية "فرعون": ?اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? (طه : 42- 44(