«كورونا» يهدد بتفاقم الديون العالمية .. مرشحة لبلوغ 260 تريليون دولار بنهاية الربع الأول
قبل أن يضرب فيروس كورونا الاقتصاد العالمي، كانت قضية الديون الدولية المتراكمة سواء على الحكومات أو الأفراد أو الشركات قضية مؤرقة للجميع، فإجمالي الدين العالمي بلغ بنهاية الربع الثالث من العام الماضي 253 تريليون دولار، وهو رقم غير مسبوق في التاريخ، وكفيل بأن يمثل بالنسبة إلى كثير من الاقتصاديين سببا من الأسباب التي تعوق ارتفاع معدلات النمو العالمي.
الآن ومع تفشي فيروس كورونا في عديد من الدول، زادت أزمة الديون العالمية حدة وإرباكا، وربما لا تتجه الأنظار بقوة إليها الآن، نتيجة انشغال الرأي العام الدولي بالفيروس وسبل مواجهة الخراب الاقتصادي الذي أصاب المنظومة الاقتصادية العالمية.
لكن ماذا سيحدث بعد أن تهدأ عاصفة "كورونا"، هل سيكون بمقدور الاقتصاد الدولي التعامل مع أزمة الديون التي يتوقع الخبراء تزايدها بشكل ملحوظ خلال الأشهر القليلة المقبلة، خاصة أن مكافحة الفيروس ومواجهته أثقلتا عبء عديد من الحكومات، وحالتا دون ممارسة كثير من الشركات نشاطه الاقتصادي، وألحقتا به خسائر جمة.
"الاقتصادية" توجهت بالسؤال إلى مجموعة من الخبراء الاقتصاديين حول مستقبل أزمة الديون العالمية، وإلي أي مدى ستكون تلك القضية على جدول أعمال المجتمع الدولي في مرحلة ما بعد "كورونا"؟
في هذا الإطار، أوضح الدكتور روبنسون دين النائب السابق لمدير المعهد الدولي للتمويل، أن الوباء ضرب العالم في لحظة سيئة للغاية، لأن الاقتصاد العالمي مثقل بالديون أكثر من أي وقت مضى، وفاقم تفشي الوباء في دولة مثل الصين والولايات المتحدة من حدة الأزمة، فالأرباح التي حققتها البورصة الأمريكية منذ وصول الرئيس ترمب للسلطة عام 2016 التي تقدر بنحو 11.5 تريليون دولار ذهبت جميعها أدراج الرياح.
وأشار روبنسون دين، إلى أن تقديرات المعهد الدولي للتمويل تظهر أن نسبة الدين العالمي للناتج المحلي الإجمالي بلغت 322 في المائة في الربع الثالث من العام الماضي، حيث تصل نسبة ديون الأسواق المتقدمة إلى 383 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يشمل ديون الأسر والشركات والديون السيادية.
ويضيف روبنسون دين، أن "انخفاض أسعار الفائدة والظروف المالية المتأزمة يمكن أن يصلا بالدين العالمي في نهاية الربع الأول من هذا العام إلى نحو 260 تريليون دولار، مدفوعا في الأساس بديون القطاع غير المالي التي تقترب الآن من 200 تريليون دولار".
ويستدرك قائلا، "إن الصدمة الاقتصادية قادمة لا محالة بعد السيطرة على "كورونا"، فالديون ليست المشكلة في حد ذاتها، لكن تباطؤ القدرة على السداد سواء للشركات أو للحكومات سيفاقم الوضع، فانخفاض أسعار الفائدة لا يهم، إذا كانت الشركات والأفراد ليس لديهم السيولة المالية الكافية لسداد مدفوعات الديون".
يذكر أن معهد التمويل الدولي - أكبر تجمع للمؤسسات المالية في العالم - توقع في تقرير نشر مطلع العام الجاري أن يتجاوز الدين العالمي 257 تريليون دولار بنهاية الربع الأول من العام الجاري.
من جهته يعتقد آستون شيلي المحلل المالي في بورصة لندن، أنه على الرغم من الثقل الذي تمثله أزمة الديون العالمية، من الضروري الحفاظ على ثقة المستثمرين في الأسواق، والحيلولة دون تعرض البورصات لهزات ضخمة، خاصة في الولايات المتحدة.
ونوه شيلي بأن "الفيدرالي الأمريكي" قرر ضخ 1.5 تريليون دولار لمنع الأسواق الأمريكية من الانهيار، وهذا الأمر سيمثل عبئا إضافيا على الديون العالمية، ودول الاتحاد الأوروبي واليابان والصين جميعا ستسير على هذا المنوال، ما يعني عمليا تضخم الدين العالمي، لكنه يبقى أفضل من تعرض البورصات للانهيار، لأن ذلك يعني فقدان الثقة بالاقتصاد الدولي برمته، بينما أزمة الديون يمكن التصدي لها لاحقا عبر إعادة الجدولة أو إسقاط ديون بعض الشركات أو منح الحكومات غير القادرة على السداد حزمة مساعدات إضافية.
من جهتها، تعد الدكتورة إميليا تكنسون أستاذة الاقتصاد الكلي في جامعة بروملي والاستشارية في صندوق النقد، فيروس كورونا ربما يدخل التاريخ الاقتصادي باعتباره الشرارة التي فجرت أزمة الدين العالمي.
وتفسر إميليا ذلك قائلة "إن الشركات أيا كان مستواها طورت إدمانا خطيرا على الديون، فأسعار الفائدة التي تم خفضها بعد عام 2008، جعلت عملية الإقراض تبدو مجانية بشكل كبير"، متوقعة أن تؤدي المستويات التاريخية لديون الشركات إلى تكثيف الضرر الاقتصادي، وقد تضطر الشركات التي تواجه ديونا جسيمة إلى خفض تكاليف الإنتاج وتسريح العمال وإلغاء التوسعات الرأسمالية لتتجنب التخلف عن السداد.
ومع هذا، تظهر إميليا تفاؤلا بإمكانية مواجهة مشكلة الدين العالمي والسيطرة عليها، وهي تعتقد أن تفادي انتشار الذعر خاصة بين الاقتصادات الكبرى شرط أساس لمواجهة قضية الدين العالمي، منوهة بأنه لا يمكن حل تلك القضية دون وجود اتفاق دولي على الخطوات الواجب اتباعها والتزام الجميع بها.
وتعتقد إميليا أن مجموعة العشرين يمكنها القيام بدور مميز في هذا السياق، خاصة في ضوء الفكرة الأساسية لتركيبة المجموعة التي تضم ممثلين عن الدول المتقدمة والناشئة في آن واحد.
وتشير البيانات الدولية إلى أنه منذ عام 2008 أصدرت الشركات في جميع أنحاء العالم سنويا نحو 1.8 تريليون دولار في شكل سندات جديدة، وقد تباطأت مبيعات السندات خلال النصف الأخير من عام 2018، حينما بدأت البنوك المركزية في رفع أسعار الفائدة، لكن مع قيام تلك البنوك بخفض الفائدة تجدد النهم مرة أخرى إلى الديون.
وقبل تفشي وباء "كورونا" نشر صندوق النقد الدولي تقريرا بأن 40 في المائة من الشركات في ثماني دول رائدة في الاقتصاد العالمي من بينها الولايات المتحدة واليابان والصين وعديد من الدول الأوروبية، غير قادرة على سداد مستحقات الديون عليها من خلال أرباحها في الظروف العادية، ومن ثم فإنه من المتوقع ارتفاع تلك النسبة في ظل التدهور الراهن في بيئة الاقتصاد الدولي.
ويعتقد بعض الخبراء أن الحديث عن أزمة ديون عالمية حديث تشاؤمي، يروج له بعض اليساريون والاقتصاديون المحافظون، مشيرين إلى أن الواقع الاقتصادي حتى في مرحلة ما بعد "كورونا" سيكون أقوى من التداعيات السلبية لقضية الديون المتراكمة.
البروفيسور جونسون آرويل الرئيس السابق لقسم الاقتصاد في جامعة ريدز وزميل مدرسة لندن للاقتصاد، يعتقد أن من يصفهم "بالمبشرين بالظلام" يوجدون حالة من الفزع الاقتصادي في العالم غير مبررة على الإطلاق.
ويضيف أنه "خلال الـ12 عاما الماضية ظل الجميع يقرع ناقوس خطر الديون، وأن أزمة الديون ستنفجر وستكتسح معها الاقتصاد العالمي، لكن الواقع أثبت أن تلك المخاوف مبالغ فيها، وفي أسوأ الأحوال توجد الديون عثرة هنا أو هناك، لكنها لا تؤدي إلى انهيار النظام الاقتصادي الدولي".
ويشير آرويل إلى أن مزيدا من الديون في الواقع كان يعني مزيدا من معدلات النمو، وحتى إذا كانت لدينا تقلبات اقتصادية فإن عوائد النمو كانت قادرة على تحقيق فوائد اقتصادية إيجابية وصافية مكنت الجميع من سداد مستحقات الدين.
لكن المشكلة من وجهة نظر آرويل تكمن في أن فيروس كورونا يمثل عبئا إضافيا وضاغطا على النظام المصرفي العالمي، وعلى الرغم من أن آرويل لا يعد من محبذي مواجهة التداعيات الاقتصادية السلبية لفيروس كورونا بخفض أسعار الفائدة، من منطلق أن الأزمة الراهنة تتعلق بالطلب وليس بالعرض، فإنه يبدو متفائلا للغاية بعد الانتصار على الفيروس.
ويستدرك آرويل قائلا "إن المعركة مع "كورونا" الآن ككل المعارك الحربية، خلال فترات الحروب ينكمش الاستهلاك، لكن بمجرد انتهاء الحرب يتكالب الناس مرة أخرى على الأسواق وتتوسع عمليات الشراء لتعويض ما فاتهم في الفترة السابقة، ولذلك أتوقع بمجرد إعلان الانتصار على "كورونا"، سترتفع معدلات الاستهلاك ويزداد نمو الاقتصاد العالمي".
ويضيف آرويل أنه "على العكس من الأزمة المالية لعام 2008، فإن القلق لا يجب أن ينصب في مرحلة ما بعد "كورونا" على إجمالي قيمة الديون، إنما على قدرة البنوك التجارية على التعامل مع الأوضاع المستجدة، وأن يكون لديها رؤوس أموال قادرة على تغطية القروض المعدومة، فأفضل الشركات الدولية مثل أبل وجوجل وفيسبوك وآمازون وعلي بابا الصينية وسامسونج من كوريا الجنوبية وسيمنز من ألمانيا وأرامكو السعودية وغيرها من الشركات الكبرى جميعها لديها سيولة مالية ضخمة تقدر بمليارات الدولارات، ما يجعلها في مأمن من أي اهتزازات محتملة، وتلك الشركات هي الأعمدة الرئيسة للاقتصاد الدولي القادرة على جذبه إلى الأمام في لحظات الأزمة".
لكن آرويل يترك الباب مواربا ويرى أن "أزمة كورونا يمكن أن تمثل فرصة إيجابية للنظر في جوهر أزمة الديون العالمية، وهي حاجة المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف جاد وحازم لإعادة الهيكلة، خاصة بالنسبة إلى الشركات والبنوك غير الفعالة، وهذا لا يتعلق بقضية الديون بقدر تعلقه بأن تنامي أعداد المؤسسات غير الفعالة يجعل البنية الاقتصادية العالمية أكثر هشاشة وعرضة لصدمات عنيفة، وليس الديون في حد ذاتها".